ماصرح به الاستاذ راشد الغنوشي في الحوار الذي أجراه مع الزميل حمزة البلومي على قناة نسمة لا يعد انقلابا جذريا على مواقفه الشخصية فحسب بل على مواقف كل قيادات الحركة التي يتزعمها. من حيث الشكل ادلى الغنوشي بحواره في القناة ذاتها التي بثت فيلم بيرسوبوليس الايراني الذي اعتبره الاسلاميون مسيئا للذات الالهية في اول سنة للثورة. كان بث الفيلم سببا في مقاطعة حركة النهضة للقناة و ما استتبعه من مظاهرات عارمة للاسلاميين و تجييش وصل الى حد وصف القناة الخاصة بالمارقة عن الدين. بصرف النظر عن الانقلاب الشكلي للنهضة في علاقة بقناة نسمة، ارسل راشد الغنوشي من خلال حواره ثلاث رسائل اساسية تعتبر انقلابات حقيقية على مواقفه ومواقف حركته من مركبات المشهد السياسي العام في البلاد: اولى هذه الرسائل، كانت في علاقة بحزب نداء تونس، فقد اثنى راشد الغنوشي على النداء و زعيمه الباجي قايد السبسي و اعتبر زعيم النهضة اننا ازاء حزب كبير بواسطته يمكن تحقيق التوازن بالبلاد. تصريح مخالف لكل ما سبق، فالى وقت قريب جدا كان الغنوشي وحزبه يعتبر النداء بمثابة تجمع لبقايا التجمع وفلوله واكبر ممثل للثورة المضادة التي تهدد التجربة الديمقراطية الوليدة! الرسالة الثانية، والتي لها علاقة بالتغيير الجذري لعلاقة حركة النهضة بنداء تونس ترتبط بقانون تحصين الثورة الذي جيشت رابطات حماية الثورة القريبة من الاسلاميين وجزءا من التيار المتشدد لحركة النهضة انصارها من اجل تمريره في المجلس التأسيسي. الى وقت قريب جدا، كان شعار تحصين الثورة أحد الشعارات التي استعملها الغنوشي من اجل تجييش انصاره الذين عدوا القانون احد مفاخرهم"الثورية". ما رأي القاعدة النهضوية اليوم امام مثل هذا التنازل الكبير ؟!. راشد الغنوشي قال ان النهضة قررت التخلي عن قانون تحصيين الثورة والاعتماد حصرا بعد الانتخابات على قانون العدالة الانتقالية. وحتى بالنسبة لقانون العدالة الانتقالية فان رئيس حركة النهضة اعتبر ان تطبيقه سيكون فرديا و عبر القضاء بعيدا على العقوبات الجماعية مستعيرا مقولة "العفو القلبي" لطي صفحة المحاسبة والتشفي بين التونسيين. ثالث الرسائل كانت في علاقة بالتيار السلفي الجهادي الذي وصف الغنوشي عقيدته ب"الفاسدة" والمضرة بالاسلام . و لم يستبعد الغنوشي امكانية تصنيف تنظيم انصار الشريعة كتنظيم ارهابي اذا ما ثبت ضلوعه في الارهاب و تجاوزه للقانون. يأتي هذا الموقف الصارم تجاه السلفيين بعد مواقف سابقة لم يخف فيها الغنوشي حنينه لشبابه السلفي الذي يتذكره عندما يشاهد حماسة هؤلاء الشباب! ما الذي جرى حتى ينقلب راشد على الغنوشي و يقوم في حصة تلفزية واحدة بالتنازل عن كل ثوابت حركة النهضة ومواقفها السابقة والتي دافعت عنها منذ وصولها الى سدة الحكم ؟! بلا شك عزلة حركة النهضة في المشهد السياسي واحتدام الاستقطاب السياسي بين الاسلاميين والديمقراطيين بعد اعتصام الرحيل كان من الاسباب الحقيقية التي تقف وراء التنازلات التي تابعناها لمواقف حركة النهضة و زعيمها الاستاذ راشد الغنوشي. كل المراقبين اصبحوا مقتنعين ان حركة النهضة تسير نحو العزلة التامة سياسيا في حال واصلت صم الاذان والتحصن بمواقف الحرس القديم الذي اراد ان يجر الحركة الى المجهول. ما جعل النهضة تتنازل لتتبنى الواقعية السياسية هو بلا شك تفكك الترويكا التي صدرتها كنموذج في الحكم . دخلت الترويكا في حالة موت سريري بعد فقدانها لاحد ابرز حلفائها ونعني مصطفي بن جعفر وحزبه الذي شلّ عمل المجلس الوطني التأسيسي بالكامل. فضلا عن الواقع التونسي، ساهم الوضع الاقليمي في اضعاف مواقف حركة النهضة ودفعها الى كل هذه التنازلات السياسية . كان السقوط المدوي للاخوان المسلمين في مصر، التنظيم الام الذي ترتبط به حركة النهضة ايديولوجيا وعقائديا، عاملا حاسما في الانقلاب الذي عرفته مواقف حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي. بعد المطاردات والسجون والاعتقالات التي شملت قيادات الاخوان واتباعهم في مصر ، بات من الواضح ان الموقف الحكيم للتنظيم العالمي للاخوان المسلمين هو انقاذ ما يمكن انقاذه في الدول التي وصل فيها الاسلاميون الى مرحلة التمكين في السلطة. من هنا يمكن ان نفهم رافدا مهما للتنازلات السياسية الكبيرة التي قدمها رئيس حركة النهضة على قناة نسمة. في كلمات قليلة ، بدا راشد الغنوشي على قناة نسمة كالحمل الوديع ، ساعيا الى طمأنة جزء كبير من الرأي العام التونسي المتوجس خيفة من اخونة البلاد و اسلمة تونس وجرها الى مستنقع الصدام السياسي في الشارع. على قناة نسمة، تخلى الغنوشي في حواره عن كل المصطلحات الدينية ونزع عنه جبة الشيخ ليلبس بدلة السياسي الراشد المدافع عن الديمقراطية و حداثة البلاد ، وجدد التزامه بالوفاق الوطني وكل العبارات الجميلة والمنمقة التي ينتظر التونسييون تصديقها عملا في واقعهم. موعدنا الصبح . أليس الصبح بقريب ؟!