د. ريما خلف الهنيدي الاقتصادية-السياسية الأردنية، التي اختارتها صحيفة الفاينانشال تايمز البريطانية ضمن 50 شخصية مؤثرة في العالم ، رسمت ملامح العقد الماضي بحلوه ومره، و فتحت الباب على مصراعيه مرة أخرى أمس أمام حوار عن واقع المنطقة العربية ومستقبلها من خلال إطلاق تقرير لجنة الأممالمتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) بعنوان "التكامل العربي سبيلا لتحقيق نهضة إنسانية". د. خلف، الأمين التنفيذي لمنظمة الإسكوا منذ أربع سنوات، أشرفت على مدى عامين على إنجاز هذا التقرير مع طيف واسع من المفكرين العرب من مختلف الألوان السياسية؛ إسلامية وقومية وعلمانية. ويرى ساسة عرب وأجانب ونشطاء شاركوا في حفل إطلاق التقرير من تونس -بحضور الرئيس التونسي المنصف المرزوقي- أنه الأكثر جدلا في تاريخ الإسكوا- منذ تأسيسها قبل أربعة عقود، بعضوية 17 دولة عربية في غرب آسيا- بما فيها الأردن، لبنان، سورية، العراق، السعودية، البحرين وقطر. قبلها فجّرت د. خلف حوارات قومية وعابرة للقارات عندما شغلت بين 2000 و 2006 منصب الأمين العام المساعد للأمم المتحدة ومديرة المكتب الإقليمي للدول العربية في برنامج الاممالمتحدة الإنمائي. حين ذلك، أطلقت سلسلة تقارير حول التنمية الإنسانية العربية، كشفت عجزا في الحريات السياسية وتهميشا للمرأة- نصف المجتمع، وضمورا في التعليم والثقافة وفجوة معرفة رقمية. وحين أضحت أول امرأة تشغل موقع نائب رئيس وزراء عامي 1999 و 2000، تركت د. خلف في الأردن بصمات على خطط التحول الاقتصادي والإصلاح الذي رفع لواءه الملك عبد الله الثاني، قبل ان يتعثر في العديد من جوانبه مع مرور الوقت. تقارير هذه السلسلة، كحال آخرها الذي أطلق يوم الثلاثاء، تكتسب أهمية استثنائية لأنها تشخّص إمكانية أن يبحث العرب عن عوامل تجمعهم بعيدا عن التفرقة وتوفر حلولا قصيرة وطويلة الأمد بشرط الإقرار بوجود هذه التحديات بدلا من وضعها تحت السجادة والتظاهر بأننا نعيش في المدينة الفاضلة. التقرير الأخير جريء بوضوحه وصراحته ويتزامن مع تناسل نعرات التعصب الديني والمذهبي التي تؤجج النزاعات والهوس الديني وتمزق الهوية الثقافية الوطنية في غالبية أقطار الوطن العربي. كما توقظ أطرا بدائية للتابعية وارتدادا إلى أشكال الانتماء الغريزي الأولي: القبيلة والعائلة والدين والطائفة. ويتعمق التراجع المرعب في كل دولة عربية. لتحقيق النهضة الإنسانية في العالم العربي تحتاج المنطقة - وغالبية أنظمتها ذات طابع شمولي- إلى إصلاح بثلاثة أركان؛ سياسي-حوكمي، اقتصادي وثقافي تعليمي. سياسي يحقق مشاركة شعبية وحرية وعدالة اجتماعية وكرامة – جميعها شعارات الثورات والانتفاضات التي تهز المنطقة منذ الإطاحة بنظامي حكم بن علي التونسي ومبارك المصري عام 2011. تنمية اقتصادية حقيقية تمهيدا لقيام وحدة اقتصادية عربية كاملة أسوة بالاتحاد الأوروبي؛ وثالثا: إصلاح ثقافي وتربوي "يعيد إحياء ثقافة الإبداع ويصلح ما أفسدته عصور الانحطاط والاستبداد في الفكر والعلم والأخلاق والقيم، ويفكك البنى الفكرية والثقافية المحركة لنزعات الانغلاق والتطرف". والأهم، نهضة ثقافية تشجّع البحث والفكر النقدي والعودة إلى الإسلام الحقيقي لإبعاد المنطقة عن شبح التطرف والإنغلاق الفكري والديني. فهذه الأجواء هي التي أنبتت القاعدة وبعدها دولة الإسلام في العراق وسورية (داعش) وغيرهما من تنظيمات التكفير وبث روح الحقد والكراهية. هذا الانحطاط الفكري الذي بات ينخر المجتمعات العربية هو نتاج عقود من الاستبداد السلطوي وتغييب المنطق في النظام التعليمي الكارثي لتجهيل الشعب وإقحام الدين في السياسة في غياب أي مراجعات تتناول أصول الدين والفقه والاجتهاد. تحقيق نهضة إنسانية متكاملة يتطلب أيضا توحيد الإرادة المجتمعية وخلق أجواء علمية تحفز الإبداع والتفكير خارج الصندوق، وتعزّز من إمكانيات وطاقات مكونات المجتمع وتوحدهم خلف رؤية ورسالة واحدة وواضحة الأهداف تعيد بناء هوية وثقافة جديدة. في التقرير تشخيص دقيق للأزمات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية التي تتشارك فيها الدول العربية – قبل وبعد رياح الثورات والإنتفاضات. ويوفر حلولا توافقية لقادة المنطقة وشعوبها صوب مستقبل أكثر أمنا واستقرارا، لكن بعد معالجة المشاكل الرئيسة التي أدت إلى تدهور الأمن القومي والإنساني وبروز الاقتتال العرقي والطائفي وصراع الهويات الفرعية الضيقة. يوضح التقرير كم التحديات السياسية والاجتماعية والثقافية التي يعاني منها العرب. لكنه يطرح مفاتيح عملية لحفز النهضة الإنسانية المطلوبة وطريقة دعم ذلك من خلال تعزيز التكامل العربي. فالإمكانيات موجودة لكن القرار غائب. في الجانب المعتم، فشل العرب في التعامل مع التحديات الخارجية المتعاظمة بسبب غياب الإرادة السياسية، التشرذم وغياب الحد الأدنى من التكامل الإقتصادي والتكافل الإنساني. كل ذلك سمح باستباحة الدماء من خلال احتلالات – خصوصا الاحتلال الإسرائيلي- ونجحت تدخلات دول غربية، حال دول عربية مدعومة بأجهزتها الاستخبارية في خلق توترات عرقية وطائفية: العراق وسورية مثلا. وفشلوا أيضا في التعامل مع أزمة ثقافية تأخذ أشكالا متعددة من مظاهر التحجر الفكري والإنغلاق وإقصاء الآخر ورفض التعددية بأشكالها كافة. تحقيق نهضة إنسانية يحتاج لفك شيفرة طلاسم العلاقة بين الثقافة/ التعليم والدين وانتهازية السياسة. التقرير يكشف مثلا تهريب 111 مليار دولار من الأموال المنهوبة كل سنة، ما يحرم المنطقة من أموال يفترض أن تضخ في مشاريع لتحقيق تنمية اقتصادية وانسانية مستدامة. ويحذر من وجود نصف مليون طفل في اليمن ومليون طفل في الصومال مهدين بالموت بسبب الجوع. والعرب يشكلّون 5 % من سكان العالم، لكن أكثر من نصف لاجئي العالم يخرجون من هذه المنطقة (الصومال، السودان، العراق وفلسطين). وإذا أضيف إليهم لاجئوا الحرب في سورية سيتخطى الرقم حاجز ال60 %. وتراجعت معدلات الإنتاج الصناعي عما كانت عليه في الستينيات من القرن الماضي. وبأسر الفقر خمس السكان، رغم الثراء الفاحش على السطح. مقابل هذه الصورة السوداوية، فإن تقليل تكلفة النقل 5 % سنويا في الدول العربية مجتمعة من اليوم ولغاية 2020 وتقليل القيود على تنقّل العمّال بين الأقطار العربية سيوفر 750 $ مليون دولار وستة ملايين فرصة عمل لجيش الباحثين عن العمل سواء في الدول النفطية أو فقيرة الموارد، في منطقة ربع شبابِها وخُمسُ نسائها محرومون من عمل يوفر لهم عيشاً لائقاً. باختصار، تلازم القمع والفساد قوّض قدرة المجتمع على العطاء، وبات الناس مشغولين إما في كيفية تجنب المظالم أو في جني المغانم. التقرير يشخص الواقع ويقدم حلولا عملية. لكنها تحتاج إلى زعماء ذوي بصيرة قادرين على تعليق الجرس باتجاه الإصلاح الشامل والمتداخل المطلوب ومجتمع يتقبل التعددية والانفتاح على الآخر ويستخدم المنطق للتعبير عن رأيه. النهضة العربية مطلوبة... وليست مستحيلة. لكنها تحتاج إلى إصلاح على الجبهات كافة والتوافق حول صورة المستقبل الذي نريد بالاتكاء إلى قرارات سياسية جريئة، نهضة إنسانية وإصلاحات متعددة وامرأة تتساوى مع الرجل في الحقوق القانونية والسياسية. فالعالم العربي أمام طريقين: التكلس في أجواء العصور الوسطى أو الانتقال الى المستقبل بخطى واثقة. المصدر: جريدة الغد الاردنية بتاريخ 26 فيفري 2014