مرة أخرى تهتز مدن الجنوب التونسي في حراك ديناميكي يستهدف أصلاً السلطة السياسية المركزية . فلم ينتظر أهالي الجنوب طويلاً لمعرفة مآل رحلة "التسول" المكوكية التي سار فيها رئيس الحكومة المؤقت مهدي جمعة حتى اجتاحت عدد من المدن الكبرى في خاصرة تونس، حركة شعبية نزلت في الشوارع والساحات العامة من أجل المطالبة بنصيب أدنى من الثروة الوطنية. في تلك الربوع التي مثّلت دائما أحد أبرز بؤر التوتر السياسي والاجتماعي، وفي تلك البقاع التي يحفظ لها تاريخ البلاد تصدرها الصفوف الأمامية لمختلف أشكال المقاومة والعصيان، مايزال أهاليها يقبعون دائما في المراتب الأخيرة لجميع جداول التنمية. ولا أحد يعلم السبب إلى حد الآن. فأي قدرٍ سُلط على أبناء منطقة تُعد المزود الأول لثروة البلاد؟! لقد فشلت دولة الاستقلال في تحقيق الرخاء للجميع. حيث لا بدّ من الاقرار أن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة كان رئيس جزء من التونسيين، فحسب، وليس كلهم. إذ توقفت حدود الرخاء عند تخوم المناطق الحضرية الساحلية وأهملت بقية الجهات. فما ضر دولة وضعت على رأس أولوياتها الاقلاع بتونس من درجة التخلف إلى مرتبة التقدم أن يتم توزيع عادل للخيرات؟ أما الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي فكان رئيس نفسه وعائلته فقط. لقد نهب أموال الجميع الأثرياء والفقراء دون تفرقة. وطوال كل تلك الفترة، بقي الجنوبيون يشاهدون شاحنات صهاريج النفط وأنابيب الغاز الطبيعي وقطارات الفسفاط تمرّ أمام أعينهم لتصب مواردها المالية في مصالح غير معلومة. إن خطأً جوهرياً في منوال التنمية الاقتصادي الذي اتبعته البلاد هو أصل الداء. منوال لم يستفد منه سوى المحظوظون من المجتمع أو القطط السمان المقربون من النظام السابق. ومالم توضع معالم وأركان الدولة الجديدة، فإنه لن يكون من اليسير على حكام تونس المؤقتون انجاز مراجعة جوهرية للبرامج التنموية والاقتصادية المتبعة منذ نصف قرن مضى. وفي انتظار تولي أمور السلطة من طرف فريق حكومي جديد، فإن قرارات عاجلة وأكثر من ضرورية هي مطروحة أمام "التكنوقراط" الحاليين. ففي شركة فسفاط قفصة ليس أسهل عليهم من فرض الشفافية المطلقة في عمليات الانتداب السنوية كأسلوب سيُيسر التخلص من حالة الاحتقان التي تسود منطقة الحوض المنجمي كلما تمّ الاعلان عن نتائج مناظرة الانتداب. أما بالنسبة لبقية المناطق الجنوبية التي تتمعش العائلات القاطنة من التجارة الحدودية، فإن تيسير العمليات التجارية مع ليبيا وتبسيطها ومحاولة تأطيرها ادارياً هو انجع السبل حالياً للتنفيس من حالة الغضب المستشرية لدى قطاع واسع من سكان يفتقدون لمصادر مالية تكفل لهم العيش الكريم. وما يقره الجميع، بما فيهم أولئك الغاضبون على مهدي جمعة وعلى أسلوب ادارته لأزمة الجنوب، أن الحكومة الحالية لا تملك فعلاً تلك "العصا السحرية" التي بمقدورها تحويل الجنوب التونسي إلى جنان ينعم فيها العيش. فحكومة "تكنوقراط" عُهد إليها تنظيم الانتخابات في أسرع وقت وفق خارطة طريق سُطرت من طرف الأحزاب السياسية. والتكنوقراط جمعة لا يخفي تبنيه لمرجعية اقتصادية موغلة في الليبرالية التي لو سُنحت له الفرصة في تنفيذها أن تزيد في تعميق الأزمة وفي ديمومتها. وما تبقّى أمام الجنوبيين من أمل سوى البحث عن ترياق سياسي حقيقي قادر على علاج ذلك الجرح المنغرس منذ عشرات السنين. والامل معلق على العقلاء من أهالي الجنوب من أجل تهدئة الخواطر واعادة الاستقرار، وصياغة برامج عملية ودقيقة من أجل النهوض التنموي الحقيقي بتلك المناطق. وأمر ليس بالصعب على من قدّم الكثير لهذا الوطن.