يتطلع التونسيون إلى الانتخابات القادمة و أدوارها الثلاثة ( تشريعية ودور أول و ثان للرئاسية) بأمل كبير ممزوج بشيء من التوجّس. أمّا الأمل فمبرره الأكبر هو الخروج من المرحلة التأسيسية التي طالت أكثر من اللزوم و التي بان فيها بالكاشف أنّ انتخابات 23 أكتوبر2011 لم ينبثق عنها فريق تأسيسي بحجم حلم الشعب وتطلعاته رغم شفافية الانتخابات و" نزاهتها وديمقراطيتها " و لكنها في الآن نفسه كانت "انتخابات" عاطفية خاضها البعض مستغلا المال المشبوه و الإعلام الخارجي غير المحايد وشارك فيها البعض الآخر مستعملا سلاح "الهوية" السحري أو مستغلا شتات القائمات و جموح المغامرين النرجسيين و المتعنطزين . في مصر و ليبيا و اليمن و سوريا تبيّن ان " الربيع العربي" لم ينجح - رغم توفّر الإرادة الجيّاشة- في إثبات نهج التغيير السياسي و التدوال على الحكم عبر الصندوق الانتخابي لذلك انتكست الانتخابات سواء بالانقلاب على نتائجها أو بالعودة إلى عصر التزييف و النسب التسعينية . كان الدرس العراقي و "الغزّاوي " واضحا و ملهما حتى قبل انبثاق ما يسمّى بالربيع العربي فالصندوق الانتخابي ليس انعكاسا بالضرورة "للديمقراطية المستديمة" ولاح جليا ان البنية السياسية و النفسية و الذهنية العربية مازالت لم تترسخ في طياتها نظيمة الانتخابات و بان بالكاشف أّن المسار الانتخابي و الديمقراطي هو مسار طويل الأمد يتربص به الخارج قبل الداخل و تستهدفه قوة الطائفة و المذهب و الفتوى و "العسكريتاريا". إن الدّربة على الانتخابات في تونس- و في باقي البلدان العربية- مازالت في مراحل الدبيب ولازالت تتطلب الكثير من الجهد و الأفكار و التضحيات لإنضاج "المناخ الانتخابي" المناسب و لا نجاح للانتخابات – أي انتخابات- إلا في ظل مسار ديمقراطي ناجع لأن الانتخابات جزء من الديمقراطية و ليس العكس . و حتى نبقى في المنوال التونسي ونحن على أبواب انتخابات استثنائية فلا بد من التشديد على جملة من المفارقات المؤرقة لأشد المتفائلين: - إن هياكل الإشراف و التسيير الانتخابي - الهيئة المستقلة للانتخابات- ولدت من رحم ديمقراطية المٌحاصصة و هذا أمر ينال من مصداقيتها ونجاعة عملها و ينسحب الأمر ذاته على الهيئات الرّديفة ( الإعلام و الحقيقة و الكرامة ...وهياكل الزجر المالي) و التي لها دور أساسي في ترسيخ شفافية العملية الانتخابية. - بقدر ما تلوح الحماسة فيّاضة عند الفٌرقاء السياسيين لفرز الأحلاف و الجبهات و الاستعداد للانتخابات التشريعية و الرئاسية بل و الإلحاح على تعميم مبدأ الانتخاب و المسارعة به في النطاق البلدي و المحلي ( البلديات و المجالس الجهوية وحتى منصب العٌمودية عند البعض) فإن الإقبال الشعبي التلقائي يبدو فاترا إلى حد الآن ولن تقوى المحفّزات المختلفة على تغيير الأمر لأن الدراسات العلمية تؤكد وجود حالة إحباط وعزوف قد تنزل بنسبة المشاركة إلى ما دون 40 في المائة في انتخابات هذا الخريف وهو أمر لا يهم تونس فحسب بل حدث في عديد البلدان التي عرفت بداية الانتقال نحو الديمقراطية . - إن العزوف الانتخابي المنتظر- و الذي لا نتمناه- مرتبط أيضا بالذهنية العامة و التصورات الاجتماعية فقلة الدُّربة الانتخابية تصور للإنسان العادي إن مشاركته السابقة في الانتخابات كانت عقيمة وغير فاعلة بسبب فشل المنظومة التأسيسية في إدارة شان الحكم و الخروج بالبلاد من المأزق الاقتصادي و الاجتماعي لذلك فإن تخيير العزوف مستقبلا هو صنو لعدم الانخراط في "شهادة الباطل" وهذا أمر خطير لأن الغائب و المتخلي عن حقه الانتخابي علاوة على غبنه لمواطنته هو شاهد زور حقيقي ومناصر فعلي للأغلبية القادمة عكس ما أراد. - إن الترويج لديمقراطية "التوافق" قد يكون "توليفة " تونسية قابلة للتحقيق و الترويج لكن هل هو وليد قناعة راسخة عند الفِرقاء السياسيين أم هو تأجيل للصراع وخوف من الهزيمة الانتخابية وهل إن كل منهزم في الانتخابات هو خاسر بالضرورة ؟ و هل إن كل فائز في الانتخابات هو منتصر فعليا ؟ - هل تسير تونس في انتخاباتها المرتقبة إلى الثنائية الحزبية أم إلى الاستقطاب الثنائي ؟ فالفرق شديد بين الأولى و الثانية لأن التجاذب الثنائي بين قطبين انتخابيين هو من صميم اللعبة الديمقراطية و يسمح ببروز أقطاب التعديل في الوسط أو الأقاصي أما الاستقطاب الثنائي فقد جرّبه التونسيون و خبروه ولم يكن قطافه إلا وبالا على المسار الديمقراطي. إن الانتخابات الديمقراطية و النزيهة لا بديل عنها للخروج بالبلاد من مأزق الانتظارية و "الوفاق" المغشوش و الوهمي و لكنها في كل الحالات ومهما كانت نتائجها لن تمثل حلاّ سحريا للمشاكل المزمنة ( إرهاب, بطالة, فقر, شبه إفلاس للدولة ...) . على الحاكمية السياسية التونسية اليوم أن يترسّخ في عقيدتها و سلوكها الحفاظ على المسار الديمقراطي في تونس و صيانته من الأخطار الحقيقية التي تهدده. فأركان الديمقراطية مهدّدة اليوم بمناخ الإرهاب و التطرف الديني الذي تغاضت عنه حكومة " الترويكا" و حركة النهضة تحديدا و لذلك فكلّما تم القضاء على جذور الإرهاب كلما تهيّأ المجال أكثر للنهج الديمقراطي وتمّ قطع الطريق أمام كل من يريد تضييف الخناق على الحريات باسم معزوفة "مكافحة الإرهاب". إن الديمقراطية و دولة المواطنة المدنية تهددها اليوم نظيمة ما "قبل الحداثة " المتدثرة ببرقع العروشية و الجهوية أحيانا أو المتسترة بدكتاتورية الفتاوى والإدمان على التكفير وتحريك فزّاعة " الهوية في خطر" عبر أبواق الدعاية في مساجد خارجة عن سيطرة الدولة وعند أحزاب "قانونية" لا تعترف لا بالقانون و لا بالجمهورية وعقيدتها هي الخلافة والإمامة. إن الانتخابات المقبلة على أهميتها لن تحسم مصير التونسيين فهي مثل سابقتها جزء من الحل و هي حجر أساس الانتقال الديمقراطي لكن مسار البناء الديمقراطي يستلزم وجود المواطنة و الحوْكمة و احترام أركان الدولة و مدنية جهاز الحكم. إن الحماسة للانتخابات المقبلة مطلوبة ومشروعة غير انه لا مبرر في كل الحالات لتقديم الجزء عن الكل و الفرع عن الأصل فالديمقراطية التي ناضل التونسيون طويلا من أجل توطيد أركانها و النهوض بمضامينها السياسية و الاجتماعية و الثقافية هي الحاضنة الرئيسية وقاعدة الانطلاق و عنها ومنها تنبثق الانتخابات و ليس العكس.