٭ د. عبد الواحد المكني (أستاذ تعليم عال جامعة صفاقس) انتخابات التأسيسي في تونس حمّالة أحلام متناقضة : كان شعار العفو التشريعي العام مطلبا «جماعيا» عند التونسيين منذ سنة 1968 أما مطلب «المجلس التأسيسي» فلم تكن ترفعه إلا قلّة قليلة لكنه استوى بعد 14جانفي كمطلب واسع في إطار موجة «الشعب يريد». في غمار هذه «الإرادة» تتداخل الأحلام والأهداف والغايات فالبعض يرى في التأسيسي تجسيدا تشريعيا لمطامح الثورة وأداة لتحويل طبيعة جهاز الدولة وهذا أمرمثالي لكنه منطقي على أية حال. البعض الآخر (وهو غالبية الرأي العام) يعتبر أن التأسيسي هوالحل «السحري» لمشاكل المجتمع التونسي العالقة منذ تحلحل جهاز الحكم واستفحال الانفلات الأمني وتفاقم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ولا ينظر للتأسيسي كمجلس تشريعي استشرافي بل كجهازستتولد عنه حاكمية شرعية وقوية بمقدورها إخراج البلاد من عنق الأزمة الشاملة. لفيف آخر ينظر إلى انتخابات التأسيسي بعقلية «الانتخابات التشريعية» على أساس المواقع وتمثيل الجهات وغنيمة الحصة السياسية لكل تنظيم وحزب وهوأمر مشروع غير أن «طريقة الانتخاب» التي تم التوافق عليها لن تتيح تحقيق كل هذه الرغائب ولا بد من تنبيه بعض الغافلين إلى أن النائب التأسيسي لا يجب أن تكون له نفس مواصفات النائب التشريعي . ٭ هل تكون أول انتخابات شفافة ونزيهة في تاريخ تونس ؟ تُعتبر انتخابات المجلس التأسيسي القادمة محطة حضارية وسياسية هامة في تاريخ البلاد التونسية فالمأمول أن تكون أول انتخابات ديمقراطية تعددية في تاريخ تونس المعاصر بعد سلسلة من «مهازل ومسرحيات» انتخابية انطلقت منذ 25 مارس 1956 وتواصلت إلى ماي 2010 وتكرّست فيها ثقافة اللون الواحد والنسب التسعينية للأنظمة الاستبدادية وشعارات «لا إمساك ولا تشطيب» وقد كانت الانتخابات في تونس (التأسيسية والتشريعية والبلدية) عبارة عن مسابقة محسومة النتائج قبل انطلاقها بسبب التزييف الواضح والخفي وبسبب عدم حياد الإعلام والإدارة خاصة بسبب إشراف هياكل وزارة الداخلية على مجرياتها من تسجيل الناخبين إلى يوم التصريح بالنسب وتوزيع المقاعد مرورا باختيار رؤساء المكاتب والمراقبين. إن الشعب التونسي بمختلف شرائحه هوأمام فرصة تاريخية لتجسيد أهداف ثورته واختيار نوابه التأسيسيين وهذا جزء محوري في البناء الديمقراطي طويل الأمد ولا نغالي في شيء إن قلنا إن الرأي العام العربي بل العالمي مهتم بهذا الحدث وتداعياته فهو بمثابة «البارومتر» الذي يؤشر على مدى سريان الثقافة الديمقراطية في شرايين مجتمع أنهكه الاستبداد السياسي طيلة أكثر من نصف قرن ففشل انتخابات تونس أونجاحها هومقياس تأشيري لما سيحدث في مصر غدا واليمن وليبيا بعد غد. إن إسناد مهمة الإشراف على الانتخابات لهيئة عليا مستقلة هوتجسيد لارادة الشعب الحقيقية وضمان لمبدإ شفافية الانتخابات ونزاهتها وسلامتها ورغم كل ما قيل عن الحيثيات والملابسات التي رافقت عملية انتخاب هذه الهيئة فهي تضم في صفوفها «نخبة» مستقلة وذات كفاءة في العمل المدني واستقلالية هذه الهيئة لا يرتقي إليها شك وعلى كل حال فهذه الهيئة هي من ثمار الشرعية التوافقية التي ترسّخت في البيت السياسي التونسي منذ سقوط حكومة الغنوشي 2 . لاشك أن مسؤولية هذه الهيئة العليا المستقلة ستكون جسيمة غير أن مهمة انجاح الانتخابات لا تنحصر في الهيئة وحدها بل مهمة الجميع : الحكومة الانتقالية, المؤسسة العسكرية والأمنية , الأحزاب والمنظمات الاجتماعية والمهنية, الجمعيات المدنية ولكن خاصة عقلية المواطن ومدى نضجه واستعداده للدربة الديمقراطية. فالبعض يتحدث منذ الآن عن الفوز والخسارة عن الفشل والنجاح عن الموعد المصيري عن الفرصة التاريخية ... وهي مصطلحات حروب أومقابلات كرة وليست من صميم قاموس انتخابات تأسيسية ديمقراطية تعددية نسبية. إن الانتخابات لا تنحصر في جانبها التقني والحسابي والقانوني رغم أهميتها بل إن العملية الانتخابية هي ذات أبعاد ثقافية وسياسية ومدنية وهي من أول شروط المواطنة ودعامة لحقوق الانسان الأساسية لذلك لابد من الاتعاظ من تجاربنا السابقة (وهي سلبية ومريرة) ولا بد من الانفتاح على تجارب من سبقنا في هذا الصدد بلا عقد ولا عنطزة. ٭ تأخير الانتخابات في مصلحة من ؟ يمكن أن نطرح نفس السؤال بطريقة معاكسة فالإبقاء على موعد الانتخابات يخدم مصلحة من ؟ مصلحة تونس, مصلحة البلاد والشعب, مصلحة الجهاز المؤقت, مصلحة بعض الأحزاب وقبل الإجابة لابد من التشديد على أنه ليس هناك اليوم في تونس ما هوأيسر من إلقاء نعوت «المؤامرة» على الآخر أونعته ب«الانتهازية وسوء النية» وهوما لم تسلم منه الهيئة العليا للانتخابات في أول قرار مستقل اتخذته بعد «ولادتها» العسيرة والقيصرية . يبدوللعارفين بمجريات الانتخابات الأقرب إلى الشفافية أن موعد 24 جويلية يتعسّر معه وفيه تحقيق عملية انتخابية بمواصفات شفافة معقولة فالانفلات الأمني والإداري يجعل الأمر صعبا للغاية وأرى شخصيا أن الانتخابات قد تأخرت منذ استفحال التردد في مناقشات الفصل 15 وفي تحديد موعد انتخابات الهيئة العليا الذي تأخر 4 مرات. فالتأخير إن حصل مبرراته «تقنية زمنية» غير أن الرافضين للتأخير والمساندين له ينظرون إلى المسالة من زاوية سياسية وهذا حقهم ويمكن تصنيفهم إلى أربعة أطياف: طيف أول يتلهّف على الصندوق خوفا من المفآجات الواردة ومسارعة بتجسيد ملامح تقديرية واستفتائية تنصفه وهذا من حقه. طيف ثان راهن على التأخير لمزيد ربح الوقت أولتأكيد فراسة سياسية نابهة فيكون التأخير في حد ذاته انتصارا اجرائيا له. طيف ثالث تمثله الحكومة الانتقالية والتي عانت في كل مرة من تُهم «المماطلة والتسويف» اختار في خطوة فاجأت البعض الدعوة إلى تثبيت الموعد تجنبا للقلاقل والاتهامات التي لا تنتهي وقد يكون الموقف الحكومي مبدئيا غير أنه لم يراع رأي هيئة «عليا» في بلاد تفتقد إلى «هيبة» عليا. طيف رابع ينظر إلى المسائل بعقلية امبيرية ثنائية انقسامية أي لا بد من إبداء الرأي لاختيار 24 أو16 الانتصار لجويلية أوالحماس لأكتوبر هكذا في المطلق وبدون تنسيب ويصل الأمر إلى حد التسطيح فأنصار الموعد الفلاني هم «وطنيون صميمون» و«أضدادهم» «يعملون مع الأجندات الأجنبية «وغير هذا كثير من لغة مصدرها «الخشب». هكذا وبعد تكثيف وتسطيح وترميز يتحول نفس الأمر أي موعد انتخاب التأسيسي- إلى مصد ر «لشيطنة» هذا الطرف وتنزيه الآخر ونعود بعد 57 سنة إلى ثنائية «الأمام والوراء». موعد توافقي ...أمر ممكن ولأن أي انقسامية حادة اليوم هي في غير مصلحة البلاد والفرقاء السياسيين وفي أجواء غابت فيها كل الشرعيات الدستورية والشعبية ولم تسد فيها إلا الشرعيات التوافقية ليكن أمر موعد الانتخاب توافقيا فتأخيرها للخريف مجلبة للمخاطر والريبة والإسراع بها في قيظ الصيف صعب ومحفوف بالفشل فلم لا يكون الحل وسطيا يرضي الطرفين الرئيسين إنه موعد 4 سبتمبر 2011. علما أن انتخابات التأسيسي رغم أهميتها وضروريتها ليست أداة سحرية للانتقال بتونس إلى واحدة ديمقراطية أوإلى حسم مادّة المشاكل المستفحلة والمزمنة في البلاد ورغم ذلك فهي خطوة إلى الأمام عندما تنجز بشروطها ومواصفاتها . إن الانتخابات أسّ هام من أسس الديمقراطية لكن الديمقراطية ليست الانتخابات فقط بل هي أيضا حرية الإعلام وحياد الإدارة والعدالة الاجتماعية ونبذ الإقصاء والحق في التعبير... فالطريق طويل لبناء تونس الديمقرطية الحرة.