أنفق الجنرال أيّام حكمه الوبال، مالا لبدا، وثروة بددا، ليُحيط بعض الجامعات بالأسوار.. كلّما مررتُ بها ألفيتها أسيجة قبيحة قُدّ بعضها من حديد وبُني بعضها الآخر من آجر متكلّس بليد.. من كان يظنّ أنّ الحقوق مثلا تُحاط بالأسوار؟ من هو صاحب الفكرة؟ من خال أنّ الجامعات تحبّ الأسوار؟ ثمّ ماذا يعني أن يكون بعضها حديدا مشبوكا؟ هل صارت زنزانات فسيحة؟ ثمّ لم لوّنوا ذاك الحديد الأخرس بلون يُشبه الخضرة؟ الحقّ أنّ الجامعات قد لحقها في عقود العار ما لحق المجتمع بأسره من آي الدّمار، وحين يُفكّر السلطان في أيّ من البلدان، في تسوير الجامعات، يكون قد ارتكب أكبر الحماقات.. معضلة الأسوار ليست ما أقيم من معمار، بل ما وُضع من قوانين وبرامج وما سُطّر من تراتيب تُعلي أصحاب القماءة وتفتح المجال رحيبا أمام الرداءة.. في جامعات بلدي لوبيّات، و بارونات، وحظوات، السواد الأعظم جنود وقلّة جنرالات.. حين تُبنى حول الجامعات الأسوار،تنكفئ الطاقات الأكاديميّة،بعضها خضع للإغواء،و رضخ للإغراء،صار الجنرال الأميّ محاطا بطاقم جامعيّ...مستشارون و وزراء،مساعدون و نصحاء..صار القصر صقرا.. اصطاد الصقر عقولا مسيجة و طموحات معطبة،وأنفسا هانت على أصحابها..تنازلت القامات عن علمها،و قدّمت من الخضوع آيات..لطّخت سمعة الأكادميّين،أولئك الذين يُفترض أن يكونوا ضمير الأمة وطلائع الفكر،وقاطرة الإبداع في زمن التهاوي. وأطلّت الثورة برأسها الذي يُطيح بالرؤوس،رآها أينعت وحان قطافها على رأي الحجّاج،حينها كان التهاوي أعظم،و كانت المصيبة أكبر..تسارع القوم إلى مقرات الفضائيّات،، خرجوا فجأة من أسوار الجنرال،وأرادوا الحديث في المآل..كالفيلسوف المثاليّ الذي يأتي دوما متأخّرا كانوا،لم يفتح جلّهم فاه يوما أيّام المخلوع،بل على العكس،تفننوا في الخضوع..همّهم كان رضاه،و الفوز بنُعماه، دولارات من هنا وهناك،ورحلات "علمية" إلى هذه العاصمة أو تلك..مجد وهميّ وظهور مرئيّ.. وحتّى الآن ما تزال ثلّة منهم (حمدا لله أنها قلّة) تحنّ إلى الأسوار..يرون الجامعة محلّهم ومملكتهم، وتأنف نفوسهم أن يجاوزوها.. حدّثني صديق منذ أيّام عليم بشأنهم،وخبير بمكرهم، أنّ بعضهم من محترفي الشاشات،وخطباء السهرات، وحضور المنتديات،ممّن يطيل الحديث عن التنمية في الجهات، ويبدو كالخبير بالاستراتيجيات لم يُجاوز بحياته أحواز العاصمة.. لم يُعاين قطّ عذابات أهل سليانة أو الجريد، ولم يعرف يوما على وجه التحديد ماذا يعني أن ترسل أبناءك كيلومترات ليصلوا مدرسة، ولم ير بعينيه عشرات النساء مكدّسات في صباح بارد فوق شاحنة تحملهنّ إلى الحقول حيث تتشقّق الأيدي وتدمى الأقدام مقابل دريهمات.. هو لا يعرف من النساء غير الجميلات أو المتجمّلات، من "السافرات" أو حتّى من السافلات.. وإذا صادف أمثال هؤلاء أن عرفوا ما بعد العاصمة، فإنّهم يعرفون مدنا أخرى تأخذهم إليها الطائرات الكبيرة حيث المقاعد الوثيرة،بل إنّ بعضهم يا للعار حتّى إذا دُعي إلى مؤتمر علميّ ساوم الجهات المنظمة لنيل مقابل مادّيّ لقاء مداخلة أو بحث قد لا يكون جديدا.. صور من تعاسة المثقفين لو شهدها غرامشي لخنقهم ثمّ ركض إلى نور الدين البحيري يستغفر للقضاة الفاسدين في زمن فساد عقول الدكاترة والمثقفين.. آن لتونس أن تقطع مع ما فات، وأن تعيد الاعتبار لرجال ظلوا دهورا يشتغلون في صمت.. آمنوا بمشروع عظيم هو علمهم، ودميت قلوبهم وهم يرون الأسوار تُرفع حول الجامعات، لم تكن سياجا يمنع الأبنية عن الفضوليين،بل كانت سياجا منع لعقود رجالات الجامعة من الاقتراب من شؤون شعبهم، نسائه ورجاله، فلاحيه وأطفاله، أبناء الحضر وأبناء الآفاق.. لم يشعر بهذا غير قلّة منهم، لا تزال معطاءة غيورة على مستقبل الأجيال. بمرارة حدّثتني أستاذة منذ أيام، أنّ بعضهم يشترط إذا تواضع و قبل التنقل إلى الجهات،للإسهام في نشاط جمعيّة أو ناد، أن تكون القاعة غاصّة بالحاضرين، مشهد مسرحيّ حزين.. يظنّ هؤلاء بالناس سوءا، ولا سوء بعدهم.. هؤلاء سكنوا الأسوار يعتريهم إن غادروها الدّوار، لأنهم صاروا عبدة الدولار.. لهم منّا السلام الحار. نلقاهم بعد أن نجدّد على مسامعهم -لو كانوا يُنصتون- قول المتنبّي: من يهنْ، يسهُلْ الهوان عليه ما لجرح بميّت إيلام!