وفاة أول مريض يخضع لزراعة كلية خنزير معدلة وراثيا    رئيس أركان جيش الاحتلال يعلن تحمله المسؤولية عن هزيمة الكيان الصهيوني في 7 اكتوبر    يوميات المقاومة.. كبّدت قوات الاحتلال خسائر جديدة .. المقاومة تعيد تنظيم قواتها شمال غزّة    عاجل/حادثة "حجب العلم"..الاحتفاظ بهذا المسؤول..    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    أمام دعوات لمقاطعتها ...هل «يضحّي» التونسي بأضحية العيد؟    سوسة حجز 3000 صفيحة من القنب الهندي وحوالي 15 ألف قرص من مخدّر إكستازي    لأول مرة منذ 37 عاما.. الرجال أكثر سعادة بوظائفهم من النساء    القيروان: غرق ثلاثة شبان في صنطاج ماء بالعين البيضاء    كرة اليد: الترجي يتفوق على المكارم في المهدية    بلاغ هام لرئاسة الحكومة بخصوص ساعات العمل في الوظيفة العمومية..    وزير الخارجية يُشيد بتوفر فرص حقيقية لإرساء شراكات جديدة مع العراق    العثور على شابين مقتولين بتوزر    باجة: اطلاق مشروع "طريق الرّمان" بتستور لتثمين هذا المنتوج و ترويجه على مدار السنة [صور + فيديو]    الجامعة العامة للإعلام تدين تواصل الايقافات ضد الإعلاميين وضرب حرية الإعلام والتعبير    حفوز: العثور على جثث 3 أطفال داخل خزّان مياه    افتتاح نقطة بيع من المنتج إلى المستهلك وسط العاصمة لعرض منتوجات فلاحية بأسعار الجملة وسط إقبال كبير من المواطنين    البطولة العربية لالعاب القوى (اقل من 20 سنة): تونس تنهي مشاركتها ب7 ميداليات منها 3 ذهبيات    رسمي.. فوزي البنزرتي مدربا للنادي الإفريقي    وزارة التجارة: تواصل المنحى التنازلي لأسعار الخضر والغلال    سليانة: عطب في مضخة بالبئر العميقة "القرية 2 " بكسرى يتسبب في تسجيل إضطراب في توزيع الماء الصالح للشرب    التهم الموجّهة لبرهان بسيّس ومراد الزغيدي    جربة.. 4 وفيات بسبب شرب "القوارص"    وفاة 3 أشخاص وإصابة 2 اخرين في حادث مرور خطير بالقصرين    المحكمة الابتدائية بسوسة 1 تصدر بطاقات إيداع بالسجن في حق اكثر من 60 مهاجر غير شرعي من جنسيات افريقيا جنوب الصحراء    رجة أرضية بقوة 3.1 درجة على سلم ريشتر بمنطقة جنوب شرق سيدي علي بن عون    مدنين: نشيد الارض احميني ولا تؤذيني تظاهرة بيئية تحسيسية جمعت بين متعة الفرجة وبلاغة الرسالة    سيدي بوزيد: تظاهرات متنوعة في إطار الدورة 32 من الأيام الوطنية للمطالعة والمعلومات    مؤشر جديد على تحسن العلاقات.. رئيس الوزراء اليوناني يتوجه إلى أنقرة في زيارة ودّية    شركة "ستاغ" تشرع في تركيز العدّادات الذكية "سمارت قريد" في غضون شهر جوان القادم    زهير الذوادي يقرر الاعتزال    ر م ع الصوناد: بعض محطات تحلية مياه دخلت حيز الاستغلال    في الصّميم ... جمهور الإفريقي من عالم آخر والعلمي رفض دخول التاريخ    النساء أكثر عرضة له.. اخصائي نفساني يحذر من التفكير المفرط    سيدي بوزيد.. اختتام الدورة الثالثة لمهرجان الابداعات التلمذية والتراث بالوسط المدرسي    المالوف التونسي في قلب باريس    الناصر الشكيلي (أو«غيرو» إتحاد قليبية) كوّنتُ أجيالا من اللاّعبين والفريق ضحية سوء التسيير    صفاقس تتحول من 15 الى 19 ماي الى مدار دولي اقتصادي وغذائي بمناسبة الدورة 14 لصالون الفلاحة والصناعات الغذائية    سبيطلة.. الاطاحة بِمُرَوّجَيْ مخدرات    نتائج استطلاع رأي أمريكي صادمة للاحتلال    حضور جماهيري غفير لعروض الفروسية و الرّماية و المشاركين يطالبون بحلحلة عديد الاشكاليات [فيديو]    اليوم: إرتفاع في درجات الحرارة    انشيلوتي.. مبابي خارج حساباتي ولن أرد على رئيس فرنسا    عاجل : برهان بسيس ومراد الزغيدي بصدد البحث حاليا    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    الدورة 33 لشهر التراث: تنظيم ندوة علمية بعنوان "تجارب إدارة التراث الثقافي وتثمينه في البلدان العربيّة"    قيادات فلسطينية وشخصيات تونسية في اجتماع عام تضامني مع الشعب الفلسطيني عشية المنتدى الاجتماعي مغرب-مشرق حول مستقبل فلسطين    مع الشروق .. زيت يضيء وجه تونس    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    حل المكتب الجامعي للسباحة واقالة المدير العام للوكالة الوطنية لمقاومة المنشطات والمندوب الجهوي للشباب والرياضة ببن عروس    مدير مركز اليقظة الدوائية: سحب لقاح استرازينيكا كان لدواعي تجارية وليس لأسباب صحّية    نحو 6000 عملية في جراحة السمنة يتم اجراؤها سنويا في تونس..    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    عاجل : إيلون ماسك يعلق عن العاصفة الكبرى التي تهدد الإنترنت    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    بعيداً عن شربها.. استخدامات مدهشة وذكية للقهوة!    تونس تشدّد على حقّ فلسطين في العضوية الكاملة في منظمة الأمم المتّحدة    دراسة: المبالغة بتناول الملح يزيد خطر الإصابة بسرطان المعدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خطان متوازيان يلتقيان في تونس!
نشر في حقائق أون لاين يوم 10 - 01 - 2015

"نداء تونس" و "النهضة" خطان متوازيان، هذا ما قاله الأستاذ الباجي قائد السبسي في تصريحاته قبيل الانتخابات الرئاسية التي تحصّل فيها على نسبة 55 في المائة من الأصوات مكنته من أن يكون أوّل رئيس للجمهورية الثانية التي أسسها دستور 2014 الذي عوّض دستور الاستقلال الذي تم إقراره سنة 1959 .
و أذكر أن أستاذ الرياضيات عندما كنت صبيا على مقاعد الدرس كان يرسم لنا على اللوحة خطين متوازيين قائلا إنهما لا يلتقيان إلى ما "لا نهاية له" و كنا نرى نهاية السبورة و لا نفهم العبارة الرياضية و الفلسفية " إلى ما لا نهاية له"
و فض الأستاذ الباجي قائد السبسي المشكل عندما أضاف في التصريح السابق "فإن التقيا فلا حول و لا قوة إلا بالله".
و فعلا عرض السيد الحبيب الصيد رئيس الحكومة المكلّف رسميا على النهضة المشاركة في الحكومة و عزز هذا الطلب مؤشرا سابقا شدّ انتباه الجميع في تونس عندما انتخب نواب النهضة في مجلس النواب الجديد السيد محمد الناصر من نداء تونس رئيسا و ردّ المجاملة بالمثل نواب النداء الذين انتخبوا السيد عبد الفتاح مورو نائب النهضة و مؤسسها مع الأستاذ راشد الغنوشي قبل 40 سنة، نائب رئيس و بثت التلفزة الوطنية جلسات يترأسها الشيخ مورو بلباسه التونسي التقليدي و بلاغته العربية.
"التوافق" هي كلمة السر التي سمحت لتونس أن تتجنب ما آلت إليه تجارب عربية أخرى شهدت سقوط الحكم السابق و عجز الزعماء الجدد على ضمان استمرار الدولة و تحولت "الثورات" إلى حروب أهلية ضيعت على الأطراف الفاعلة الوطنية التحكم في خيوط اللعبة التي مسكتها قوى إقليمية و دولية زادت الأوضاع تعقيدا.
و التوافق لا يتم بين الأصدقاء و الأشباه لأن ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم و لكنه يتم بين الخصوم و الأضداد عندما يتجاوز كل واحد غروره و خوفه و ينظر إلى الأمام أكثر من نظره إلى الوراء و يرتقي إلى أداء دوره السياسي أي ضمان مصلحة من منحك ثقته و صوته لتمثيله في قيادة الوطن متخلصا قدر ما استطاع مما يعلق بكل بشر من ذاتية و نرجسية و أحكام مسبقة و ضيق أفق و رهانات فردية.
النداء أو كيف تطعّم ثقافة السلطة بثقافة الاحتجاج و الحلم
نعم كل شيء يختلف بين نداء تونس و النهضة. فالنداء يجمع بين ثقافة وطنية تركّز على القطر التونسي "الأمة التونسية و القومية التونسية" وريثة حقبة قيادة الحركة الوطنية منذ تأسيس الحزب الحر الدستوري سنة 1920 و ثقافة حكم ترسّخت بممارسة السلطة بصفة مسترسلة طوال 60 سنة و فلسفة اجتماعية حداثية ترمز إليها الإصلاحات التي قام بها أول رئيس للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة الذي ألغى تعدد الزوجات في 1956 و نشر التعليم و الصحة.
هذه الثقافة يوفرها الرافد الدستوري من ناحية الإرث الايجابي و لكن الرافد الدستوري يحمل أيضا ما علق به طوال سنوات الحكم و الرخاء ثقافة التسلط و الإقصاء و الخلط بين الدولة و الحزب و سهولة الثراء عندما تكون على مقربة أو قرابة من أصحاب السلطة مركزيا و محليا.
و الرافد الثاني الرئيسي يضع في سلة "النداء" ثقافة يسارية احتجاجية ديمقراطية تشاركية و حالمة تحتفي بالحياة و لا تذنّب "الزهو و الطرب" يوفرها طيف من الشخصيات ذات الماضي اليساري و النقابي و الحقوقي عرف بعضهم سجون بورقيبة أو بن علي و لكنهم بعد الثورة رتبوا أولوياتهم و اعتبروا أن مشروع الإسلام السياسي الذي بدا منتصرا بعد الثورة هو الخطر الأول و كل التناقضات الأخرى تصبح ثانوية.
الكثير منهم أصحاب كفاءة حصلوا عليها في مواقع متقدمة من الدولة و في المؤسسات التربوية و الثقافية بحكم شهاداتهم الجامعية دون أن تتاح لهم فرص الوصول إلى القرار الإداري في المواقع الأولى إلا نادرا أو مقابل التنازل عن تنظيمات شبابهم و الانتماء إلى الحزب الحاكم او الاكتفاء "بالمساندة النقدية". و من ضمنهم النسبة الكبرى من النخبة التي تصنع الثقافة التونسية المعاصرة بمختلف مجالاتها من أدب و مسرح و سينما و نشر.
و في الوجه السلبي فهم يضعون في سلة "النداء" إرثا من الصراعات الإيديولوجية المتراكمة منذ السبعينات عندما كانوا طلبة يتصارعون على أيهما أصلح الاتحاد السوفيتي أو غريمها الزعيم الصيني ماوتسي تونغ و يختلفون في تقييم الانشقاق اليوغسلافي بزعامة تيتو و بعضهم لا يقرّ بالزعامة إلا لأنور خوجة رئيس ألبانيا التي شتمت الجميع باسم "النقاء الثوري" و سبقت دولة قطر في تأسيس إشعاع دولي عبر "إذاعة تيرانا" تضمن لبلد متناهي الصغر حضورا عالميا.
كما كانوا يتقاتلون حبرا في جدل لا ينتهي لتعريف حكم بورقيبة بعد الاستقلال هل هو "وطني" أم "عميل" أم "تقدمي" بإصلاحاته الاجتماعية أو "مستبد" لانفراده بالحكم. طبعا تضحك كل هذه المناقشات أصحابها و جلهم يدافعون اليوم بشراسة على "الإرث الحداثي البورقيبي" الذي وضعهم في السجن و لكنه "حرر الوطن و بنى الدولة"، و لكن كم من جرح سريع الانفتاح بقي عالقا بين رفاق الأمس رغم الحلم المشترك.
و بقدر ما يحسب لهم من عطاء و نباهة و سرعة تجنّد و معرفة بخوض المعارك الفكرية و السياسية و حضور في شبكة مؤسسات المجتمع المدني و صداقات دولية مكثفة يتميّز بعضهم بأسلوب فردي و بحرص على التمسك بالمواقع القيادية و هم "مخزون من الجنرالات من غير جند" يصعب إلزامهم بما لا يقتنعون به أو ما لا يليق "بشخصيتهم التاريخية". و لكن كما تقول العبارة الفرنسية كل هذه "أخطاء شباب"تجاوزها الكثيرون و لا تغيب عليهم الابتسامة عندما يذكرونها.
النهضة: من السجون إلى الحكم
أما النهضة أو ما أصبح يعرف الآن ب"أبناء النهضة" و هي عبارة أصبحت متداولة في الخطاب السياسي كما انتشرت على سبيل المزح العبارة التي استعملها د.المنصف المرزوقي الرئيس السابق قبيل الحملة الانتخابية عندما عبر عن "ثقته في شعب النهضة"، فثقافتها و ارثها مغاير لما سبق.
تأسست النهضة في بيئة ثقافية معاكسة لثقافة حزب الدستور إذ مجالها الرئيسي الفكر الديني حسب اجتهاد مدرسة الإخوان المسلمين المصرية التي تربط بصفة متلازمة بين العقيدة و السياسة و تجعل من الانشغال بالحكم ضمن "واجبات المسلم" و افقها الكوني "الأمة الإسلامية" في بلد كان يسمى فيه البرلمان "مجلس الأمة". و سرعان ما أودعوا السجون بعد حقبة دعوية و أخلاقية سمحت بها السلطة في السبعينات و هي ترصد نشأة هذا التيار مترددة بين توظيفه لمقاومة خصمها الأول أي الحركات اليسارية الناشطة في الستينات و السبعينات و معاملته كخطر سياسي سيتبوَّأ مرتبة الخطورة الأولى نهاية الثمانينات قبيل وصول الرئيس السابق زين العبدين بن علي إلى الحكم سنة 1987 ، سنة عرفت محاكمة و سجن الأستاذ راشد الغنوشي و العديد من رفاقه.
و للنهضة "روافدها" غير المعلنة و لا نعني ما يعرف بالأجنحة "المعتدلة" و "المتطرفة" و لكن ما كان يسمى بقيادات الداخل أي من بقوا في تونس و قضوا فترات طويلة في السجن و من ضمنهم رئيسا الحكومة السيد حمادي الجبالي و السيد علي العريض و هم من تحملوا أعنف أشكال قسوة النظام السابق و قيادات الخارج الذين استطاعوا مغادرة تونس و الإفلات من شبكة الأمن في سنوات الجمر و إن صدرت في بعضهم أحكام غيابية قاسية، و تم ذلك أساسا بعد حرب الخليج الثانية سنة 1991 التي يقال ان الرئيس السابق بن علي عرف كيف يوظّفها للتخلص من خصومه الإسلاميين بعد أن أخرجهم من سجون بورقيبة سنة 1987و منحهم حق نشر جريدة الفجر الأسبوعية التي كان يرأسها السيد حمادي الجبالي، و اعترف بتنظيم نقابي في الجامعة تحت تأثير الحركة الإسلامية بمنافسة التنظيم الوحيد الاتحاد العام لطلبة تونس تحت تأثير الحركات اليسارية بعد أن فقد الحزب الحاكم حضوره فيه نهاية الستينات من القرن الماضي.
و باستثناء الزعامات التاريخية يتميز أنصار النهضة في الثمانينات بصغر سنهم خاصة و أن الحاضنة الطبيعية كانت المؤسسات التربوية الثانوية و الجامعية و هؤلاء عندما هاجروا تمكنوا من مواصلة الدراسة في مختلف الجامعات الأوروبية و العربية و شكّلوا بعد الثورة نمطا مميزا عندما عادوا بعد حوالي 20 سنة من الهجرة المسترسلة.
و الأكثر طرافة من وجهة نظر اجتماعية هو هذا الجيش من الأنصار المتحمسين الذي مثل المفاجأة السعيدة للنهضة التي خرجت منهوكة بعد عقدين من الإقصاء و تمكنت بسرعة استثنائية بعد الثورة سنة 2011 من بناء شبكة مكثفة من الهياكل التي جندت بصفة مباشرة الآلاف من المناضلين و استهوت قاعدة عريضة من المتعاطفين الذين تبين تمسكهم مرتين في 2011 و 2014 بالنهضة رغم الخسارة الجزئية بعد فترة الحكم سنتين في ظروف صعبة.
حرب "الوجاهات الجديدة"
لا يمكن لملاحظ محايد أن ينكر الرصيد النضالي الذي دخلت به النهضة الانتخابات سنة 2011 في وضع تميز بفراغ تركه تآكل الحزب الحاكم و انهياره بعد الثورة و منع رموزه و كل من تحمّل مسؤولية قيادية في حقبة بن علي من الترشح في انتخابات 2011، و يضاف إلى هذا الرصيد النضالي" حسن النية" التقليدي الذي يمنحه التونسي إلى كل رجل "طيب يقوم بصلواته" و "يخاف ربي" و كلها حجج انتخابية جيدة إضافة إلى البرامج و غيرها من مقومات العمل السياسي.
و لكن مدة الحكم مهما كانت قصيرة تضع من يمارسه في تناقضات مع بعض قيمه المعلنة أمام رأي عام متعطش إلى الكمال و يتغذى من مادة إعلامية لم يعد يتحكم في إعدادها و نشرها الصحفيون على عكس ما يتصوره السياسيون الذين يلومون الإعلام عن انحيازه و لكن محررها الأول المواطن الذي مكنته وسائل الاتصال الحديثة من تحويل حديث المقاهي إلى مادة إعلامية تروج بكثافة عبر الصفحات الاجتماعية قبل وسائل الإعلام التقليدية.
و شهدت تونس بعد الثورة و هي تعيش أضخم عملية تجديد النخب الطامحة لقيادة الشأن العام منذ الاستقلال، حربا رمزية فعلية حول ما يمكن أن نسميه ب"الوجاهة الجديدة" في الحياة العامة التونسية بين زعامات فعلية أو متوهمة خاصة قبل دخول محرار الانتخابات لتحديد الأحجام، تعتمد توظيف النضال ضد بن علي كوسام استحقاق يؤسس إلى شرعية الحكم و بين من تعاملوا و تعاونوا أو سكتوا عن الحكم السابق و كأنها معرّة حتى قيل لهم "احمدوا الله على الإفلات من المشانق" أو "أحشموا و شدوا دياركم" في تناقض صارخ مع مبادئ ثورة أساسياتها مبدأ المواطنة التي لا تقلص حقوقها أية سلطة خارج القضاء. هذا إضافة إلى الخلط بين "نظام بن علي" و هي عبارة رائجة الاستعمال و كأنها مفهوم بديهي لا يخضع للنقاش و التدقيق، و الدولة التونسية في حقبة تاريخية من حكم تونس ترأسه بن علي.
و من الطبيعي أن يخسر المناضل السابق بريقه عندما يصبح "حاكما" في أي رتبة من الدولة و تنشر أخبار حول الرواتب المرتفعة و السيارات الإدارية و المساكن الوظيفية و توظيف الأقارب بالوساطات و يضاف إلى كل ذلك ملف التعويض عن النضال سواء في شكل "أحقية و أولوية" تشغيل أو منح مالية كبديل للظلم السابق و تحوّل النضال في وعي المواطن من قيمة عطاء و تضحية إلى قيمة مادية قد تكون مستحقة و لكنها تفقد المناضل هالته و تتسبب في الخيبة عند الكثيرين الذين كانوا ينتظرون من الثورة إنصاف الجميع و ليس "إكرام ذوي القربى".
في معادلة الربح و الخسارة التي خرجت بها النهضة من تجربة الحكم حديث طويل و لكن الكنز الحقيفي هو تحوّل النهضة من حزب احتجاج و معارضة إلى حزب "حكم" له قاعدة مستقرة من المتعاطفين في الرأي العام و له جيش من الكوادر ستتاح لها في السنوات القادمة فرص فعلية في التمرّس على الإدارة في كل دواليب الحكم و ستمثل في السنوات القادمة، عنصر قوة قادر على تحقيق النقلة الصعبة من الثقافة الإيديولوجية العامة التي تشبّع بها مناضلو النهضة عبر مكتبة الفكر الإسلامي الغزيرة التي تقدم حلولا جاهزة لكل مشاكل المسلمين إلى "أدبيات الدولة" حسب عبارة الزعيم الشيوعي الروسي لينين في مطلع القرن الماضي، و هي أدوات الحكم الفعلية التي تمثلها إحصاءات و دراسات و تقارير الأجهزة الإدارية و السياسية التي تعالج كل أوجه المجتمع التونسي و مصالحه و ظروفه الخصوصية.
"التوافق" فترة وضع الدستور على محك الواقع
لكل من النداء و النهضة خيارات و ثقافات و ممارسات سياسية مختلفة و متناقضة تجعل منهما خصمين سياسيين أفقهما الطبيعي الصراع و لكن ثقافة "التوافق" التونسية جعلتهما - بعد صدام و رفض أدى بالنهضة إلى التغيب عن أول اجتماعات الحوار الوطني التي انطلقت تحت إشراف الرئيس المؤقت السابق د.منصف المرزوقي و رغم حضور السيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة التي زكتها و قادتها النهضة بعد انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011- يتوجهان إلى التعاون و التشارك في الحكم سنة 2015.فكيف ستتراوح الخصومة السياسية و المنافسة الشرسة التي ستتأجج في كل مرحلة انتخابية مع التعاون و التحالف حتى في شكل مخفض الذي يشترطه الحكم المشترك؟.
من الطبيعي أن يشعر البعض من أنصار كل حزب و قسم من الناخبين الذين تغذوا من رفض الطرف الاخر و التخوّف منه، خيبة أمل و لكن يجب أن نشير إلى مسالة لا تحظى بالاهتمام الكافي حاليا و هي أن النظام السياسي الجديد الذي أسسه دستور 2014 بدأ يكشف تدريجيا عن منطقه الداخلي و يفرض على الأطراف السياسية أسلوبا جديدا لن يستكمل شكله إلا بعد سنوات من الممارسة و كأننا أمام آلة معقدة تم تصميمها على الورق و نكتشف مع بعض المفاجأة ما سيفصح عنه وضعها في الخدمة على ارض الواقع.
الإرادة السياسية لكل طرف لم تعد كافية وحدها و كل طرف يمارس السياسة حسب متطلبات الدستور و الرأي العام التونسي و هو في طور إعادة التشكّل و هي عملية بطيئة و لن تستقر ملامحها الفعلية على المدى القصير.
فتبين مرتين على سبيل المثال، في انتخابات 2011 و 2014 أن النظام السياسي التونسي الجديد و اختيارات الناخب تفرض التحالف كأسلوب حكم فهل ستكون تونس عصية على الحكم من غير تحالف؟
و بينما انتقد المعارضون في فترة حكم الرئيس السابق بن على، استحواذ مؤسسة الرئاسة على كل مقاليد الحكم و طالبوا بعد الثورة بتقليص صلاحيات الرئيس و تعزيز البرلمان الذي يقترح حزبه الأكثري اسم رئيس الحكومة و يشترط تزكية الحكومة من النواب و هو ما اقرّه الدستور سنة 2014 نجد أن الناخب التونسي لا يعبأ بتعقيدات نخبته القانونية و المناضلة التي ساهمت في تحرير الدستور و لا يتأثر بالتخويف من "التغوّل" الذي ساد الحملة الانتخابية الرئاسية و يعطي مرتين القيادة لحزب النداء في البرلمان و الحكومة و رئاسة الجمهورية. فهل هذا سبق سيتكرر مستقبلا؟
كذلك يقر القانون الانتخابي وجوب الترشح في قائمات حزبية أو قائمات مستقلة و فتح الباب عريضا بعد الثورة لتنظيم الأحزاب و لكن الانتخابات كرّست مرتين غياب شبه كامل للمستقلين و استحواذ عدد قليل من الأحزاب بالأصوات. و جربت بعض الوجوه الوطنية أن النظام الانتخابي لا يكافئ الأشخاص و قدراتهم. فالأستاذ عبد الفتاح مورو مؤسس تاريخي للنهضة فشل في 2011 عندما ترشح على قائمة مستقلة منافسة لقائمة النهضة و نجح في 2014 عندما ترشح على قائمة النهضة.
من جهته استطاع رجل الأعمال أصيل مدينة صفاقس السيد محمد فريخة الحصول على عشرات آلاف الأصوات أهلته إلى دخول البرلمان على رأس قائمة النهضة و لكنه بعد شهر تقريبا حصل على عدد هزيل من الأصوات في الرئاسية لأنه ترشح بمبادرة فردية رفضت النهضة تزكيتها بل طلبت منه التراجع عن هذا القرار تجنبا للخلط لأن النهضة قررت عدم خوض المعركة الرئاسية. درس مرير تجرعه السيد فريخة بعد الشيخ عبد الفتاح مورو : الحزب يصنع الانتصار.
النظام السياسي الجديد و كذلك "رغبة" الناخب التونسي و ثقافته في هذا الطور من النضج السياسي تكافئ الأحزاب و تجعلها الوسيلة الطبيعية لخوض المغامرات الانتخابية.
هذه بعض ملامح النظام السياسي الجديد التي لا يمكن استنتاجها فقط من نص الدستور و لكنه تفاعل بطيء بين نص الدستور و الرأي العام التونسي و ستتعقد الأشياء مستقبلا عندما سيتم انتخاب رؤساء البلديات و رؤساء المجالس الجهوية التي اقرّها الدستور و التي ستحوّل لها صلاحيات عريضة. فكيف سيكون مستوى التعاون بين الوالي الذي ستعيّنه الحكومة المركزية و مجلس الولاية الذي سيكون على رأسه بالضرورة أبناء الجهة من حزب قد يكون مختلفا عن حزب الحكومة. طبعا سيضبط القانون صلاحيات كل مسؤول و لكن من يضمن سهولة التعاون على الميدان لمصلحة الجهة بعد أو قبيل حملة انتخابية؟
إذا نجح "التوافق" في تمكين تونس من تجاوز الصعوبات في الفترة الانتقالية السابقة فان الفترة القادمة و إن كانت فترة حكم "دائم و مستقر" تنهي النظام المؤقت الذي ساد في تونس بين 2011 و 2014 ستكون أيضا بحاجة إلى "روح التوافق" طوال فترة وضع الدستور على محك الممارسة في المجتمع التونسي. و دون ذلك سيصعب حكم تونس و يتعطل القرار.
هذا ما فهمه الشيخان الأستاذ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة و الأستاذ الباجي قائد السبسي الذي نجح في استقطاب سريع لشرائح عريضة من الشعب التونسي تخوفت من انتصار النهضة سنة 2011 و اللذان يقودان فعليا دفة السفينة السياسة التونسية عبر عواصف الثورة منذ سنة 2011 و تعزز التقارب بينهما منذ لقاء باريس صائفة 2013 على خلفية وضع داخلي شديد التوتر بعد قتل النائب محمد البراهمي الشخصية السياسية الثانية ستة أشهر بعد الزعيم اليساري شكري بلعيد و ظرف إقليمي تميّز بوصول الجنرال السيسي إلى الحكم في مصر على اثر مظاهرات شعبية لم ينتبه "الإخوان" في الحكم إلى خطورتها و لم يتحلوا بالمرونة المطلوبة في فترة حكم غير مستقرة.
على عكس ما كان أستاذ الرياضيات يرسمه لنا في فترة المراهقة على السبورة شارحا عدم التقاء خطين متوازيين قائلا" إلى ما لا نهاية له "، يتم في تونس "التقاء الخطين المتوازيين" برغبة الشيخين السبسي و الغنوشي و إرادة انتخابية شعبية "عينت الحزب الأول" دون منحه الأغلبية التي يشترطها الدستور لتشكيل حكومة تستند إلى قاعدة برلمانية عريضة و هو شرط نجاعة الحكم في تونس في السنوات القادمة حيث ستواجه كل حكومة تطلّعات شعبية عريضة على رأسها تشغيل الشباب و أوضاع أمنية واقتصادية دقيقة إن داخليا أو خارجيا مع طرف أوروبي يعرف أزمة اقتصادية لا يمكن إلا أن تنعكس على بلد تقارب معاملاته الأوروبية 80 في المائة.
و ستتعامل كل سلطة مع رأي عام صعب المراس تسلّح بأدوات احتجاج و مشاركة في الحياة العامة عديدة و ناجعة هذا إضافة إلى بيئة إقليمية عربية غير مستقرة و متخوّفة من "تداعيات التجربة التونسية و رمزيتها" رغم احترامها و إعجابها بما يجري في تونس.
من سيحكم تونس السنوات القادمة لا يحسد على هذا الموقع و ما أحوجه إلى "إذن الله" تحقيقا لالتقاء كل "الخطوط المتوازية" خدمة للوطن.
للتفاعل مع الكاتب: [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.