لقد قال حكيم يوناني يوناني قديم: "في بعض الأزمنة المريضة يصبح الخراب سيّدا". فهل قدّر علينا أن نعيش اليوم أشياء كثيرة من هذا القول البصير!؟ أقول هذا،بعد أن أنهكتنا كلمة السر الجديدة/القديمة التي تتداولها صناعة التاريخ في هذا الراهن السياسي الكوني:الإرهاب والحرب على الإرهاب! مما يعني تسويق الشعار الإنتقائي "من ليس معنا فهو مع الإرهاب" وهذا يعني بدوره مواصلة اجبار العالم والضعفاء بالخصوص على النظر بعين الرضا إلى المسعى الأمريكي الذي ما فتىء يحثّ الدول جميعا على تحالف دولي مناهض للإرهاب دون أن يحقّ لأحد البحث عن الإناء الذهبي المتمثل في صياغة تعريف توافقي لهذا الأخير.. لذا غدت البشرية جمعاء مجبرة على تعديل أزمنتها على التوقيت الأمريكي طالما أنّ "العدوّ" هو ذلك الذي تضعه الولاياتالمتحدة في قفص الإتهام حتى إذا لم تكن تملك الدليل الكافي الذي يدعم مزاعمها،كما أنّ كذلك بواعث هذا "العدو" هي تلك التي ترى أمريكا أنّها بواعثه ولا دليل يدعم ذلك هنا أيضا..وهكذا تبدى الطابع -الزلق-لمفهوم الإرهاب بشكل واضح في استخدامه الإنتقائي الإزدرائي،وأصبح الأقوياء تبعا لذلك هم سادة المفاهيم القادرون على تقسيم العالم إلى قطبين:قطب البربرية وقطب الحضارة تاركين الضعفاء يرثون ضعفا مضافا إلى ضعفهم وإستجداء متواترا لن يقيم قرابة أبدا بين الضعف والحقيقة. إذن هل يمكن لسياسة القوّة والهيمنة المحضة أن تكرّس الإئتلاف الواحدي وتلغي الإختلاف التعددي في سياسات ومصالح الأمم والشعوب؟ وبسؤال مغاير أقول: هل تروم الولاياتالمتحدة بسياستها التوسعية وضع العالم تحت جناحيها بإسم "نهاية التاريخ"وصراع الحضارات"ومنطق القوّة والغلبة وصولا إلى سيطرة قطبية وأحادية على العالم؟ أم أنّ هذا العالم قد بدأ ثورة جديدة ضد"أسياده"ليلج مرحلة مغايرة يستردّ عبرها أحلامه المهدورة ويجسّد من خلالها رغباته التوّاقة إلى الحرية والإستقرار والسيادة؟ يبدو أنّ الأسئلة لا تنتهي خصوصا بعد الإنتقال- الدراماتيكي- للمجتمع الأمريكي من قمة الطمأنينة التي جسدها-نظامه منذ نهاية الحرب الكونية الثانية،إلى نظام أشباح يطارد أشباحا في حرب مفتوحة على إرهاب لا تخوم له.حيث يصبح كل ما صوّرته هوليوود في أفلام العالم الخيالي حقيقة معاشة على شاشة الحياة الأمريكية وتحت عنوان عار:انهيار الحلم الأمريكي. واليوم.. ها هو اليوم الإرهاب الأعمى يستكمل في تونس حملته التي بدأها في العراق،بإستهداف الآثار والمتاحف.ينكر الإرهابيون الذين يرفعون لواء الدين تاريخ المنطقة الذي سبق ظهور الإسلام وواكب انتشاره.لم يُعهد في الفتوحات الإسلامية أن تم استهداف معالم تراثية وروحية لغير المسلمين.وبهذا،فإنه في ذروة تصدر الدين وانتشاره،كان الإحترام قائماً لمعتقدات الآخرين ومأثوراتهم. ارتكب -إرهابيو الأربعاء الأسود- في تونس فعلة نموذجية بالفعل: فقد استهدفوا مدنيين أبرياء، حداهم الفضول ومحبة الديار التونسية لزيارة هذا البلد الإفريقي/ المتوسطي،الذي لطالما عرف عن شعبه أريحيته في استقبال ضيوف بلاده من شتى أنحاء المعمورة.كون هؤلاء الضيوف،في معظمهم،أوروبيين مسيحيين (صليبيين في عرف القاعدة ومن لفّ لفها)،فهذا يضعهم في دائرة الاستهداف.ويعيدنا الصراع الديني على هذا النحو الفج والعاري إلى القرون الوسطى أيام كانت كنائس تنكل بمسيحيين وغير مسيحيين بداعي الهرطقة.وتمّ خلال ذلك استهداف ذاكرة وطنية تاريخية متمثلة بالمتحف،بداعي أن تاريخ ما قبل الإسلام يتعين تقويضه وكأنه لم يكن،مع أنه كان،ولا يملك أحد إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء. ومن اللافت،حقاً،أنّ الإرهاب،وقد كان يتخذ من قبل سمتاً سياسياً واهياً وزائفاً،قد أخذ في الآونة الأخيرة ينحو منحى التطهير الثقافي.يغفل هؤلاء الفعلة أن مواطني البلاد وجلّهم من المسلمين ينكرون عليهم دواعي فعلتهم،ويطعنون بها،قبل أن يدينها غير المسلمين. ليست هناك إساءة للإسلام والمسلمين أسوأ من هذا التوحش الذي ينعزل مرتكبوه عن بقية العالم والأسرة البشرية،وهو ما يفصح عنه التصريح الساخط للزعيم الإسلامي البارز راشد الغنوشي الذي قال إنّ "الشعب سوف يدوس بالأقدام هذا الإرهاب".وسبق للغنوشي أن اعتبر في سياق الدفاع عن حركته،أن "النهضة" هي أكبر متضرر من "التيار السلفي الجهادي" الذي استُعمل ضدها،من أجل إحراجها والتشكيك في كونها متناقضة معه دينياً وسياسياً. فهذا التصريح بالغ الأهمية والدلالة من الناحية السياسية،ف"النهضة"،تبعاً لهذه الرؤية،لن تكون بيئة لقبول هذا التطرف الدموي أو إنتاجه.القطع مع الإرهاب بهذا الوضوح الساطع يمنح الأمل للتونسيين بأن التعددية لن تكون ذريعة لتسلل التطرف الأعمى باسم الدين،كما ينبغي أن لا تكون مدخلاً لعودة الإستبداد أو الأحادية الحزبية والسياسية والنقابية.ومن المفارقة الدالة أن من انتابهم الذعر من المارة،حيال هذا الهجوم الإرهابي الذين صودف وجودهم في المكان،قد لجأوا إلى مبنى البرلمان المجاور.وبالفعل،نجا هؤلاء بلجوئهم إلى بيت الشعب،فشعب تونس اختار طريقه عبر الثورة والعملية الديمقراطية والانتخابية التي صعّدت إسلاميين وغير إسلاميين، لتمثيل شعبهم،وقد قُضي الأمر.باتت كل أشكال العسف والقسر من الماضي،وأن يلجأ إليها إرهابيون موصوفون فذلك يدل على أنهم خارجون عن شعبهم وعليه،ويكررون أسوأ صفحات الماضي،وبصورة مضاعفة،أكثر مجلبة للسخط والمقت. ما أريد أن أقول؟ أردت القول أنّ ما حدث بتونس يوم الإربعاء الأسود الموافق للثامن عشر من شهر مارس 2015 لا يعدو أن يكون تحديا يقع في مقدّم التحديات السياسية والأمنية التي تعترض أفضل قصة نجاح -للربيع العربي-في البلاد التونسية،منذ حرب أفغانستان الجهادية ضد الوجود السوفياتي في الثمانينات إلى ازدهار الجماعات الأصولية في البلد المجاور،الجزائر في تسعينات القرن الماضي، إلى نشوء "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي (العربي)"،وحتى تشكيل داعش وظهورها،فإن تجنيد تونسيين في هذه الجماعات كان يتم على قدم وساق،وخصوصاً أولئك الذين يعيشون على هامش المجتمعات الأوروبية،حيث يقيمون. ومن هنا،فإنّ تماسك المجتمع التونسي،وعدالة القانون وعموميته،ونهوض الاقتصاد لمكافحة الفقر والبطالة عبر خطط تنموية واعدة و طموحة،يتقاسم فيها الجميع الأعباء،تعتبر وصفات نموذجية لتطويق الإرهاب واستئصاله،من دون التقليل من أهمية المواجهة الأمنية،والثقافية مع شراذمة الإرهابيين،و التصدي الثقافي لهذا الخطر الذي يمثل طعناً لصورة الإسلام وحقوق المسلمين،كما لواقع التعدد الاجتماعي والثقافي،والحقّ بهذا التعدد،فالأحادية السياسية والحزبية والأيديولوجية تجافي طبيعة عصرنا،وتضع عقبات كأداء في وجه التقدم الشامل الذي يجني الجميع ثمراته. إنّ الدرس الواضح الذي تقدمه "المجزرة التونسية" هو أن أولئك التكفيريين لا يؤمنون بديمقراطية او عملية سياسية،ولا يحتاجون إلى مبرر اصلا للانقضاض على المجتمع المدني وتدميره،بل يحتاجون فقط الى الفرصة.ولا يعني هذا أنّ نكفر بالديمقراطية،أو اهمية العملية السياسية،إلا أنّ ثمة إعادة نظر مطلوبة في شروطها،حتى لا تصبح بدورها نافذة او غطاء لانتشار سرطان الارهاب. ويكفي أن ننظر إلى أعرق الديمقراطيات في العالم لندرك أن "الحل السياسي" لا يتناقض مع الأهمية القصوى للقدرة على حفظ الامن،ومواجهة الارهاب بكل شراسة ممكنة في إطار القانون. اما تيار الاسلام السياسي،فسيكون المستفيد الأوّل من مراجعة أصبحت حتمية تنقيه من الأفكار والعناصر والمجموعات الداعشية التي ربما "تعشش" في بعض أركانه،وكانت سببا في كثير من أزماته. والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع:هل حان وقت المصارحة والمراجعة؟