لم يتمالك أحد المدافعين عمّا يسمى بالصيرفة الاسلامية نفسه في أحد البرامج الاخبارية التلفزيةو قدمها كحل الوحيد لتعبئة الاستثمارات وخاصة الداخلية منها قاصدا تلك الأموال الضخمة التي تضطر مجموعات المهربين الكبار الحائزة لها لوزنها من فرط ضخامتها.واقترح بما أن تلك الشريحة لا تعترف بالنظام المصرفي الحالي "غير المسلم"الخضوع لهواجسها الدينية واقرار نظام مصرفي "غير كافر" يسمح لها بايداع أموالها في بنوك "مسلمة".وهو منطق لا ضير إعتمادا عليه من قبول خضوع الدولة كذلك لكل من يرفض القواعد والسماح بالتالي لتاجر المخدرات من فتح نيابات تغطي المناطق المحرومة أو تمكين اللصوص من يوم مفتوح أسبوعيا تعتبر فيه الجرائم قانونية. هنالك رابط ما يربط بين هذه الطروحات المتواترة وبين مباشرة مجلس النواب الموقر تغيير نظامنا المصرفي.وهو يؤدي إلى استنتاج أن دولتنا خضعت للشروط التي تفرضها علينا أطراف خارجة عن القانون لكي تطمئن وتبيض أموالها في بنوك "غير كافرة".خاصة أن الأمر يتعلق بإشكال من السهل معالجته بإغارة مصالح الدولة على مواقع تخزين تلك الكتل النقدية الضخمة غير القانونية وافتكاكها لما في ذلك من مصلحة وطنية واضحة أو على الأقل تغيير كافة الأوراق النقدية لاجبار الجميع على كشف عما يملكونه من أموال. لا يعلم كثيرون بأن الفأس في طريقها إلى الوقوع في الرأس وبأننا بصدد مشروع سياسي بديل تقود جزءا منه تلك البنوك "الإسلامية" التي لا تملك من الإسلام سوى الإسم التجاري.والتي علاوة على إثقالها كاهل المواطن بأرباح تفوق نسب الفائدة القانونية العادية بمراحل ستمثل كذلك خطرا محدقا لا على نظامنا المصرفي فحسب بل وعلى بنوكنا عمومية كانت أم خاصة وعلى نمطنا المجتمعي عموما. فيكفي مشاهدة الفيديوهات االترويجية التي ينشرها بعضها على اليوتيوب(لم تنشر إلا لأنها اعتبرت معتدلة) لنكتشف دعاية تتلاعب بالمشاعر الدينية وتعتمد خطابا مغرقا في الشعوذة والتسطيح.ولا تمثل واقعيا سوى مسامير جديدة تدق في أسس الدولة المدنية لتقويضها من الأسفل. إن هذه البنوك بصدد الانتشار كالنار في الهشيم وهي تمارسالتجارة والسياسة في آن واحد باستعارة بعض مهام الأحزاب الدينية والجمعيات الدعوية المحاصرة.وهي بصدد فتح آفاق جديدة مدهشة لمشروع الدولة الدينية بخطوات سريعة وبالإعتماد على نفس الخطاب الديني شبه التكفيري. وترتكز في ذلك على قوة اقتصادية ضخمة بصدد التعاضم شيئا فشيئا وسط لا مبالاة طبقة سياسية انتهازية وفاشلة تخدم مخططاتها عن وعي وإدراك تحت غطاء "التوافق المغشوش". إلى درجة أننا قد نصل يوما ما بعد فوات الأوان إلى المطالبة بتحييدها ومنعها من استغلال الخطاب الديني لأغراض تجارية/ سياسية. وليس من المستغرب اليوم أن تخوض مختلف تلك البنوك (ومن بينها بنوك لم تدخل تونس بعد)سباقا محموما وتضع من ضمن أوكد أولوياتها السيطرة على أحد مكونات المنظومة القضائية التونسية وهي عدالة الإشهاد. وهي عملية من الخطورة بمكان وتتم خدمة للمشروع المذكور تحت غطاء تكوين منتسبيها على تقنيات الصيرفة الإسلامية. فعدول الإشهاد وبحكم تعيينهم بقرار من وزير العدل موزعون بدقة واحكام على كامل التراب الوطني وهم منتشرون في كامل نسيج أحياء الجمهورية لدرجة أنه حيثما لا يوجد لا مصالح إدارية ولا عمد ولا مراكز حرس وطني لا بد أن يتواجد مكتب عدل إشهاد. وهو بحكم عمله دائم التنقل في مختلف المناطق التابعة له حتى النائية منها وملتصق بكامل طبقات المجتمع وخاصة الضعيفة وغير المثقفة ولا المتعلمة ويحضى بثقتها. مما يجعل من إمكانية انخراط ذلك المأمور العمومي المبجل عادة في منطقته في مشروع "أسلمة" عقود حرفائه بدفعهم إلى الاستغناء عن البنوك العادية "الكافرة" واللجوء إلى البنوك الاسلامية عملية في غاية التأثير. وخاصة إذا ما تم انتدابه فيما بعد لخدمة المشروع الذي خلنا أنه انتهى بالمصادقة على الدستور الجديد. فمشروع "أسلمة" المهنة ليس بالمشروع الجديد، ولنتذكر فقط مشاريع قوانين "المأذون الشرعي" و"الأحباس" (والذي ركز فيه على دور محوري للعدول)وغيرها التي قدمت في عهد التأسيسي وقاومتها المهنة بشراسة. وهي مقاومة كانت نتيجتها سياسة ممنهجة لاستيلاء أتباع حركة النهضة بالتحالف مع التجمعيين السابقين على مختلف هياكلها منذ سنة 2012 فيما بقيت الغرفة الجهوية بتونس جدار الصد الأخير الرافض لتلك المشاريع المشبوهة. وقد استطاعت إلى حدود نهاية سنة 2015 اقناع أغلب منتسبيها بالالتزام بمواقفها رغم الإغراءات الكبيرة ومن بينها العمل مع تلك البنوك التي جعلتهم عن قصد المحررون الوحيدون لمختلف عقودها مما يمثل مصدر مداخيل خيالية قد تفوق الألف والألفي دينار لعدل الإشهاد في اليوم الواحد. باخضاع تلك الغرفة القوية أخيرا سقط الجدار، وسقطت معه جميع الحواجز.فقد قام مؤخرا مسؤولون ضعفاء وانتهازيون وغير واعون بخطورة المشروع الذي انخرطوا فيه على مهنتهم وعلى مجتمعهم بالسماح بعقد دورات تكوينية"إسلامية" مكثفة ومتعددة وسريعة لفائدة عدد كبير من منظوريهم عدا قلة قليلة بقيت رافضة للخضوع.واضطر عدد كبير من عدول الإشهاد وفي غياب الآفاق وتعكر أوضاعهم المعيشية نتيجة تفاقمالأزمة الإقتصادية للخضوع لإغراءات تلك البنوك وانخرطوا في العمل معها. وطبعا لن يقدر من تعود على مثل تلك المداخيل الخيالية من كسر عصا الطاعة مستقبلا وسيصبح رهينة لدى البنك يفعل به ما يشاء.مما قد يجعل عددا مهما منهم يلعبون للأسف ولو اضطرارا الدور الذي خطط لهم منذ زمن. فقد سبق لصخر الماطري أن خطط لاستغلالهم سياسيا لخدمة مشروعه عن طريق بنكه الإسلامي وفشل نتيجة صمودهم ورفض هياكلهم القوية للإغراءات. ولكن المشروع استأنف اليوم بكل قوة لفائدة أطراف أخرى أكثر خبثا وهو في طريق النجاح. إن مشروع الدولة الدينيةالذي خال البعض أنه انتهى بالمصادقة على الدستور نهض من جديد وبطرق أكثر دهاء. وهو إن تواصل بهذه الوتيرة السريعة فلا يستهين أحد مستقبلا بمشهد يبدو خياليا اليوم لممثل الدولة في تحرير العقود وقد تحول مكتبه إلى خلية بنكية دينية يرفض فيها تحرير العقود "الكافرة" ويوجه حرفاءه إلى البنوك "المسلمة" أو ولم لا يرفض فيه تطبيق مجلة الأحوال الشخصية أو يدعو فيه "المؤمنين" إلى التمرد على القوانين العلمانية أو حتى إلى محاربة الدولة الكافرة. لا بد هنا من الوقوف دقيقة صمت وتعزية كل من دافع عن الدستور الجديد، خصوصا أولائك الذين يحملونه في جيوبهم أينما ذهبوا ليستظهروا به في كل فرصة تتاح لهم غافلين عن حمله بذور الفتنة وتقسيم هذه الدولة العريقة. هؤلاء الذين اسقطوا دموعا مدرارة عند "نجاحهم" في تعديل الفصل الأول منه والحفاظ بذلك على الصبغة المدنية للدولة، تبين اليوم سخفهم وهزال تحاليلهم. فتونس تقف مكتوفة الأيادي في مواجهة موجات جديدة صامتة وخبيثة هدفها"أسلمة" هذا المجتمع "الكافر" غصبا عنه ومن الأسفل من جديد. فبعد فشلهم في إدارة الحكم عدل الإسلامويون تكتيكاتهم وخيروا المواجهة "المستترة" واستطاعوا بتواطئ صارخ من نخبة شديدة الإنتهازية ولا تعي الرهانات الحقيقية وتحت غطاء "التوافق" المغشوش من تغيير المعادلة ومن استئناف مشروع حركة النهضة الحقيقي والذي لم تتخل عنه ولكن بأيادي "علمانية". إنه مشروع مجتمعي جديد يزحف علينا شيئا فشيئا بمباركة من نخبنا المدنية ومن حكومتنا الوفاقية.