اقترب موعد العودة المدرسية وعاد الجميع إلى طرح قضية التربية والتعليم، كل حسب منطلقاته العقدية والفكرية والاجتماعية. لكن عادة م يتسم هذا الحراك بشيء من التسرع الناجم عن التشاؤم والشعور بالإحباط، أو بطابع العناد والمزايدة. فهل من سبيل إلى طرح القضية من خارج الصندوق وبعيدا عن المسارات المألوفة، بل عبر مسارات تفرض نفسها علينا فرضا؟ بادئ ذي بدء هنالك مبدأ عام نذكّر به عسى أن لا نحيد عن الطريق الأقرب من الصواب: إن الوظيفة الأساسية للمدرسة إنما هي تربوية أكثر منها تعليمية. فالمدرسة من المفترض أن تربي النشء على الحرية، وحب الوطن والتشبث بتراب الوطن، والتعددية الفكرية مع الوحدة الوطنية. كما أنها مطالبة بتزويد النشء بالأدوات التي تمكنهم من بلوغ ذلك وهي أدوات معروفة ومصادق عليها عالميا (في ما يسمى "التقرير P21"، وهو ميثاق المدرسة لهذا القرن، وفي ما يعرف بالأربعة حروف "ج" بالأبجدية اللاتينية، ألا وهي: "التفكير النقدي وحلحلة المشكلات"، "الإبداع"، "التعاون"، "التواصل "). إنه مناط بعهدة المدرسة أن تؤدي هذه الوظيفة التربوية الشاملة قبل أن يكون من واجبها تلقين المعارف والعلوم. و لا تنفع هذه الأخيرة النشء ولا البلاد في شيء سوى في التحصيل الأداتي _لا الوظيفي_ بل قل إنها ضرورية فقط إذا تم تسخيرها من أجل دعم الجهد التربوي. مع العلم أن المدرسة التونسية للأسف لا تضطلع الآن بهذه المهمة المركزية التي تستوجب أن يكون التعليم تابعا للتربية، ناهيك أن يكون في حوزتها تصورا خصوصيا للتربية في القرن 21. أمّا ما يدل على أن المدرسة في تونس تعاني الآن من هذا الصنف من الانخرام الذي يكاد يكون تاما بين الرافد التربوي والرافد التعليمي_ بسبب عدم توصلها إلى تلبية الحاجيات التي شرحناها_ هذه المدرسة تسير في طريق خاطئ، طريق "بعدي أنا الطوفان" و"ذراعك يا علاف" و" نفسي نفسي ولا يرحم من مات"، وهي عقلية سكنت في وجدان التلاميذ وفي عقولهم على امتداد السنوات الأخيرة. كما أن هناك دليل آخر على الانخرام ألا وهو ما تفرزه_ في المقابل_ هذه العقلية الفردانية، من تراخ و تهاون وخمول وتقاعس و تواكل في صفوف التلاميذ. أما أقوى الأدلة على الانخرام فيتجسم في ردة الفعل على فساد المدرسة: التهافت على التعليم الخاص. وهنا نأتي، بعد المبدأ العام الذي لم تقدر مدرستنا على التقيّد به، إلى ظاهرة هروب الأسرة من التعليم العمومي والمغامرة في التعليم الخاص. إن هذا المنحى المتصف بتهريب الشباب عن العمومي لا يساعد إلا المليارديرات الجشعين وكبار الفاسدين في مجالات المال والأعمال (وقد بدأ هذا في الحدوث في الولاياتالمتحدةالأمريكية، منذ سنة 1971، بشهادة كبار الملاحظين مثل نعوم تشومسكي). كيف ذلك؟ إن شبابا حرا وواعيا ومسؤولا يُعدّ العدو الأكبر لمنظومة الرأسمالية المتوحشة وهي منظومة سارية المفعول بكل صلف وتعنت. وبقدر ما يتطلع شباب المدارس والجامعات إلى الحرية والاستقلالية ما يميل الساهرون على رأس المال المتوحش إلى تشتيت صفوف هذا الشباب من أجل تطويعه لخدمة مصالحهم ومصالح المنظومة ككل. أما أسهل طريقة للتشتيت فهي تلك التي تنبثق عن عقيدة الرأسمالية بالذات: رهن الشباب بواسطة التداين. هكذا يصبح الشغل الشاغل للأسَر هو إيجاد موارد لتسجيل ذريتهم في مؤسسات التعليم الخاص. وحين يصبح طلبة التعليم العالي مرهونين لدى الصناديق الممولة للقروض، وقتها سوف ينقص منسوب الحرية والديمقراطية إذا لم نقل يتلاشى ويضمحل فيصبح الشباب عرضة لتلبية شروط الفاسدين من الرأسماليين يوم يتخرج هؤلاء من الجامعات! على عكس ذلك إنّ قضية التربية والتعليم لا ينبغي أن تجابَه بمبررات مالية. فالمدرسة العمومية، بشهادة الخبراء، لا تستنزف المال العمومي. ولا خوف على خزينة الدولة من الإفلاس بتعلة كثرة المصاريف على التربية والتعليم كما يتم الترويج له عادة، حيث إنّ مشكلات المدرسة والجامعة تتعلق بفلسفة التربية والتعليم أكثر من تعلقها بشحّ في الموارد المالية. في المحصلة، إذا أردنا معرفة فيمَ تتلخص الحاجيات لفلسفةٍ خصوصية (لمجتمع مثل مجتمعنا)، سوف نحدد المحورين الاثنين التاليين، وذلك طبعا باعتبار المبدأ التربوي العالمي والعام الذي كنا بصدد طرحه: المحور الوجودي والمحور العقدي (الديني والعام). بخصوص المحور الوجودي، يمكن القول إنّ تونس بلد لا يزال متخلفا، سواء واجهنا هذه الحقيقة أم لم نواجهها. والمواجهة خير من عدمها. بل إنها ضرورة حتمية: كيف لا يقال للمتعلم إنّ بلاده متخلفة ويراد منه في الوقت نفسه أن يتعلم لكي يصبح قادرا على الإسهام في تقدمها؟ قد يصحّ القول إنّ المرء الذي ينعم بالحياة في مجتمع راق بحاجة إلى العمل من أجل المزيد من الرقيّ له ولبلده، لكن لا يصح تطبيق نفس المقاربة التربوية المعمول بها في بلد ينعم هو و متعلموه بالرقيّ، تطبيقها في بلد مثل تونس لا ينعم بالرقيّ. إنّ المدرسة التونسية لا توحي لمنظوريها حتى الإيحاء بهذه المعادلة. والحال أنّ البلاد تعاني من التبعية والفساد وأيضا من الاستقواء المعنوي من طرف القوى الأجنبية المهيمنة _على كافة الأصعدة. فالمدرسة التونسية تلقِّن ولا تبعث مناهجُها على التفكير. إنها تكرس التقليد وتدعّم الإتباع. إنها مدرسة تغالط النشء بدلا من أن تحثهم على اكتساب الوعي بالقضايا الحضارية الجوهرية. لست ممن يسكنهم التشاؤم بخصوص مستقبل تونس ولكنني ممن لا يرضون لهذا البلد المحظوظ أن يعيش بمقتضى الحظ أو الصدفة دون سواهما. لا بأس أن ينعم الشباب بالمَرافق العصرية ولو أنّ غيره هو من صنعها. لا بأس أن يتمتع بمنتوجات المصنّعين الأجانب. لكن يتوجب على الشباب أن ينعم بواسطة إحدى يديه على أن يعمل ويكدّ ويجدّ باليد الأخرى. والعمل لا يكون ناجحا إلا إذا كان مناسبا لهدف الارتقاء. والارتقاء لا يتحَقَّق إلا بواسطة الاستجابة لمتطلبات المجتمع المتخلف. والاستجابة لا تحدث إلا في صورة التعرف على متطلبات التقدم والارتقاء في مجتمع متخلف. وهذه الأخيرة يحددها المفكرون قبل أن يتبناها المربون والمدرسون. وكل هذا لم يقع بعدُ. قد تبدو هذه المعادلة من الصنف الفُصامي، والحال أنها الواقع. لكن أيهما أفضل، أن يتمادى المجتمع التونسي في العيش في حالة فُصام بسبب عدم اضطلاعه، تربويا وتعليميا، بالمتطلبات الخصوصية للتخلف الذي يتبعه مثل ظله، أم أن يتبنى فُصاما "تكتيكيا" _على كافة الأصعدة_ لا لشيء سوى لكونه الخيار الأوحد؟ في الحقيقة، ليست تونس أول من سيرتدي شَعبُها جبة الازدواجية لكي يتلمس طريقه نحو الخلاص. فالازدواجية واحدة من الاستراتيجيات الخفية التي تمارَس على أعلى المستويات السياسية والدبلوماسية وفي الجيوبوليتيك (لقد أماط عنها اللثام الكاتب جورج أوروال صانع شخصية "بيغ براضر" في كتابه "1984" والتي أطلق عليها اسم doublethink ؛ وهي ما يمارَس عندنا بعنوان "ازدواجية الخطاب"؛ وتمارَس أيضا في السياسة الدولية بعنوان "سياسة المكيالَين"). فقط أقترحُ تنزيل هذه التقنية إلى عالم "الشهادة" لا لشيء سوى لأن الازدواجية أضحت حتمية سلوكية. ليس المربي أو المعلم أو التلميذ أو رائد الجامعة مطالبا بالنفاق أو بالتلاعب إذا ما مارسَ الدُّربة على الوجود المزدوج، لا في خطابه ولا في كتابه. إنهم فقط أمام خيارين اثنين: إما المواصلة في عملية الغزَل إزاء حضارةٍ صَنعت العجب مع إيهام أنفسهم بأنهم ملتحقون "لا محالة" بركب الحضارة؛ إما ارتداء جبة الوجود المزدوج؛ يقبلون الحياة المفروضة فرضا بقوة واقع التبعية والهيمنة، وفي نفس الوقت يقاومون ألوان العبودية اللي تفرزها التبعية (على وجه الخصوص ما يسميه تشومسكي "العبودية العقلية" اقتباسا عن مغني موسيقى الريغي بوب مارلي). لكن إذا كان قبول منهج الوجود المزدوج عسيرا، فإنّ إنزاله حيّز التنفيذ أعسر. ولكم في المحور الثاني شهادة على عُسر التطبيق. في ما يتعلق بالمحور العقدي: لكي تكون المدرسة التونسية قادرة على تربية النشء على العرفان الذاتي والمتمثل في مداواة النفس بالتي هي الداء _ الاضطلاع بالوجود المزدوج بوصفه حتمية إذا ما أرادت القضاء على الازدواجية المرَضية_، لا بدّ من التحلي بقدرٍ مُهم من قوة الشخصية، ومن قوة التنفيذ. وهذا لعمري لا يمكن أن يتحقق دون توظيف إيجابي للدين الحنيف، أعني دون تربية دينية عصرية متخلصة من العُقد التي خلّفتها _ ولا تزال تخلّفها_ المشكلات المتشعبة المتعلقة بالمسألة الدينية. حببنا أم كرهنا، وعلى عكس المجتمعات الغربية، ليس ديننا في عقلنا، إنما عقلنا في ديننا. فماذا يقول الإسلام عن القوة؟ عن القوة الصامتة والباعثة على الصمود والمثابَرة و الإبداع والعمل؟ وكيف توظَّف القوة في التربية والتعليم؟ يقول الله تعالى في محكم تنزيله: "خُذُوا مَا آتَيناكم بقوة" (البقرة:63). في شروط العصر الحاضر وحسب ما ترشدنا إليه وسائل المعرفة الحديثة، تعني هذه الآية أنّ المسلم، وهو المطالب ب"أخذ" كلام الله "بقوة" أن يفعل ذلك بواسطة القلب و العقل و السمع و البصر . كما أنه حريّ بنا أن نفترض أنّ الكلام المأخوذ هكذا سيتحول عبر المسلم إلى كلام بشري. وإلا فما هي الوسيلة التي تترجم ما بالقلب و ما بالعقل و ما بالجوارح وما بالحواس قبل تجسيده في الواقع الحسي والمعنوي، في شكل سلوك و فعل، ما هي الوسيلة إن لم تكن الكلام؟ والكلام من اللغة، واللغة لها من الجاه والنفوذ ما يضمن صلابة البناء، كل بناء وبالتالي فالكلام البشري المترجِم لكلام الله ينبغي أن يكون، وبالإمكان أن يكون، بنيانا قويا على غرار قوة الأخذ التي أمر لله بها في الآية الكريمة. وقوة الكلام والتخاطب والتواصل والاتصال شأن أسري في المقام الأول لكنه في الآن ذات شأن تربوي ثم تعليمي قبل أن يتحوّل إلى شأن بنائي_ مجتمعي و معرفي وعلمي واقتصادي و ثقافي_ ؛ إنه شأن مدرسي بالأساس. بعبارة أخرى، يتحتم على المدرسة التونسية أن تضطلع بمهمة تقوية ملكة الكلام، بمختلف روافدها، وذلك عبر العناية الخصوصية بالسياسة اللغوية، إذا ما أردنا للنشء أن يشبّ على القوة المطمَئنة التي تخوّل له تحويل الازدواجية الشيزوفرينية التي يعاني منها مجتمعُه إلى ازدواجية بنّاءة. إنّ الوجود المزدوج وجودٌ واعٍ بالتخلف و مقاومٌ له. ومَن قوّى الكلام فقد قوّى العمل. ومجالات التقوية تتراوح بين السلوك اليومي والإنجاز العلمي والتكنولوجي، مرورا بالإتقان الحِرَفي والنجاح التجاري والإبداع الصناعي. فالمدرسة قادرة على توسيع دائرة مثل هذه الأعمال التي يحتاج المتعلمون إلى معرفة أسرار التحكم بها وإتقانها، طالما أنّ اللسان حمّال لأسماء الأعمال من بين أسماء الأشياء الأخرى: " وَعَلَّم آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا" (البقرة: 31). في الختام وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إنّ تلميذ المدرسة المنشودة هو مَن يتعلم كيف يفهم واقعه وواقع بلاده حتى يكون قادرا، بفضل المعارف والعلوم التي يتفاعل معها، وبفضل حُسن توظيف القيم الدينية النبيلة، على مجابهة الصعاب ورفع التحديات، مدرسيةً كانت أم أُسَريةً أم مجتمعيةً. كما أنّ الفهم الصحيح للواقع نتيجة ومقدمة في الوقت ذاته: إنه ناجمٌ عن فهمٍ واقعي للدين الحنيف وأيضا مُسهّلٌ لمزيدٍ من التدبّر العقلاني في الدين. وهذا من شأنه أن يُبعد النشء المتمَدرس عن طريق التشدد والتزمت فيُرسّخ لديه، بدلا عن ذلك، المعاني الأصلية للصرامة_ الصرامة الخلاّقة. وهي صرامةٌ حِيال التشبث بالحقوق: حق الأكل والنظافة والصحة والسكن والتعليم والشغل والتنقل والسفر و الترفيه؛ صرامةٌ حِيال الحرص على أداء الواجبات: واجب الاستقامة والاجتهاد والكدّ والجَدّ، واجب حبّ الوطن والإسهام في تطوير الحياة فيه، واجب تحويل الكلام إلى فعلٍ هادف يخدم هذا الوطن.