فصل أول : في المحاماة و سبب تهيّب السلطان منها اعلم أنّ المحاماة لسان بيان وقوة برهان و كلمة حق لا يقوم بدونها الميزان أساس العمران لذلك تهيب منها أهل الباطل ممن سطا و بغى و لم ير القوة إلا في الحديد والقدرة على التجنيد فأكثر فرق الترهيب و التعذيب و بذل الصفراء و البيضاء لكسب الولاء، كل ذلك وهو لا يهنأ له بال و ما برح يرى الاطمئنان بعيد المنال وأنّى هو بالغه، وهو لا يدرك إلا بانتهاج نهج الحق، والحق لا يشترى بمال ولا تحقه كثرة عتاد ورجال، سنة الله القادر المتعال، فالقويّ من غزا الوجدان بقوة المعاني وسحر البيان ليس من غزا الأوطان بالقهر وفرض الإذعان. لذلك رأيت رئيس الإدارة وقائد الفيالق الجرارة يلبس لبوس التهيب والخوف من معنى ودليل ألقاه صاحب فكر بقلم نحيل وحبر قليل فلا يجد غير ما أعدّه من آلة القمع وصفف من أعوان الطاعة والسمع ليعالج خوفه من غزو المعاني و يبقى الأمر على ذلك الحال إلى أن يتأذن الله بإبدال حال بحال وهو العزيز المتعال. فصل ثان : فيما داخل المحاماة من انحراف وآفات فقرة أولى : في السمسرة الكبرى لما كانت عقيدة السلطان فيما سمي متخلف البلدان تستبيح الأرواح والأبدان وما دونها من خيرات الأوطان فقد جعل الأمير الولاء شرطا للبقاء وكسب لقمة الأبناء فأصدر الأمر بألا يأكل من تمره من يعصي أمره، وأعدت لذلك قائمة اسمية فيمن يأكل و يشرب على نفقته السخية وهي معروفة لدى المحامين بالقائمة الرسمية لا تضاهيها شهادة علمية و لا كفاءة صناعية أو خصال خلقية فتلك معايير نظرية لا تتفق مع واجب العرفان لصاحب الأمر بفضل النعمة و كرم المنة وموصول الرعاية والعناية و غيرها من معاني تضييع كرامة الإنسان و إذلال الذات و تحقير الشأن حتى إذا طلب من أحدهم ارتكاب المحظور اندفع إلى ذلك اندفاع الثور المنفلت من ضوابط القيم و المتخلص مما حمله من أسفار العلم مسخرا ذاته لخدمة بوليس السلطان مفتعلا المعارك بدون قضية طامعا أن تجزل له العطية مسوغا العدوان الذي يطال من خرج عن الصف ورفض سلوك الهوان و الضعف فاغتال في نفسه المحاماة و قديما قيل أن الهزيل إذا شبع مات و لا حول و لا قوة إلا بالله. فقرة ثانية : في السمسرة الصغرى ذلك أن كبرى الخيارات تجد لها طريقا في أدنى المستويات فتشهد الظاهرة إنتشار الآفات و تقتحم من المجتمع قطاعات و الناس على دين ملوكها تتأسى بهم في سلوكها لما فيه من ضمانات فالمطلوب حذق لعبة الولاء و البحث عمن يوفر الغطاء وأدرك من له اختصاص في سماع من قارف أو خالف ما يمكن أن يدر عليه من ريع يغنيه عن الشراء والبيع وتوفير ما يخرجه من ضيق الحاجة والأزمات فاهتدى إلى طريق تهريب الملفات لمن يقبل من المحامين والمحاميات بذل العمولة و المكافآت وأقام سوقا سوداء للدفاع تتحكم فيها عصابات لا يظفر المحامي العادي فيها إلا بما سقط من شباكها من فتات و أصبحت وكالة المحامي عقد إذعان يقبل به الحريف طلبا للأمان، والنفوس تنقاد إلى صاحب الجاه و العتاد لا يشغلها في ذلك إتيان صلاح أو درء فساد. وضاع جهد هياكل المهنة تلفا و لم تصب في تصديها لآفة السمسرة هدفا بعدما انصرف جهدها إلى معالجة صغراها دون كبراها وقد فاتها ما يجمعها من لحمة الارتباط ووحدة الأنماط حولتها إلى ملة و عقيدة – والله أعلم. بقلم المحامي عبد الرؤوف العيادي