إنّ المتأمل في تاريخ البشرية الطويل بداية بعصور ما قبل التاريخ يعلم بأنّ الإنسان تعلم استعمال قبضته قبل استعمال عقله فقد نجح في استنباط أدوات و أفكار جهنمية تثير حيرة العلماء إلى يومنا هذا رغم نقص المصادر المتاحة و بساطة تفكير أسلافنا و لكنّها غريزة البقاء ربّما من ألهمت إنسان العصور السحيقة للدفاع عن نفسه و حماية عشيرته من هجمات الإنسان و الحيوان على حدّ السواء . انتهت عصور قانون الغاب و دخلت الإنسانية إلى الحضارة أفواجا و لكنّها لم تتخلص للأسف من مفاهيم العصور الحجرية فالعنف تحوّل من وسيلة للنجاة في حالة الخطر المحدق إلى سلوك يومي في البيت في المدارس في العمل في الشارع … انشغل الرأي العام هذه الأيام بظاهرة اجتماعية خطيرة ما لبثت أن تفاقمت وصارت تنذر بالوبال تداولتها الألسن بين متعجّب ومندّد إنّها ظاهرة العنف المدرسي من الابتدائي إلى الثانوي وتتمثل في الاعتداءات المتكرّرة على رجال التعليم ونسائه من طرف التلاميذ وفي بعض الأحيان من طرف التلاميذ وأوليائهم والمتأمل في حال المعلم يلاحظ تدني هيبته إلى أدنى مستوياتها وفي كثير من الأحيان تصل الأمور إلى حد فقدان الهيبة حتى أصبحت مشكلة العنف ضد المعلمين تشكل أبرز العقبات التي تسهم في الحول دون تطور التعليم في بلادنا وباتت الأخبار المتعلقة بحالات العنف ضد المعلمين تتصدر عناوين الصحف و مواقع التواصل الاجتماعي وأصبحت من الأخبار شبه اليومية. غير ان ذلك لا يمنع من ضرورة فهم هذه الظاهرة عبر تشخيصها ودراستها بعمق من جوانب مختلفة حتى نتمكن من السيطرة على أسبابها . إن العنف المدرسي ظاهرة عالمية وهي مستفحلة في كل المجتمعات وهو ما يعني أنها ليست خاصية تونسية لكن ما يميزها عندنا هو سرعة تناميها وعن الأسباب التي أدت إلى انتشارها فترجع إلى وجود عدة عوامل من أهمها سياسة تعليميّة فاسدة سياسية قامت على إخضاع المعلم و ترويضه من خلال سلوكيات قهريّة سلطويّة ممنهجة نذكر منها إلزامه بمنهج تربوي فاشل نتج عنه فشل مدرسي نتج عنه غضب و استياء الولي و ترجم ذلك في سلوكيات عدوانيّة ضدّ المعلم و كل ما يمتّ إلى الجهاز التربوي مع ضعف التشريعات و القوانين الردعيّة لمن تسوّل له نفسه الاعتداء على المعلّم و حرمة المدرسة و تركيز التشريعات في أغلبها على تحذير و تهديد المعلّم من مغبّة عقاب التلميذ مما أرسل برسالة خاطئة لبعض الأولياء مفادها حقّه بالتدخل في شؤون المؤسسة التربويّة بل و التطاول على من يمثّلها بالإضافة إلى الحملة التي شنّتها القنوات التلفزية التونسيّة على المعلّمين خلال إضراباتهم من سؤال غير بريء للتلاميذ الصغار عن رغبتهم في الدراسة و أسئلة مستفزّة للأولياء و دفعهم على تفريغ غضبهم مع الليونة المفرطة التي يتعامل بها الأولياء مع أبنائهم من التلاميذ تسببت في انتشار هذه السلوكيات وقد يشجع الأولياء أبناءهم على ممارسة العنف في بعض الأحيان دون وعي بسبب غض الطرف أو التشجيع على الدفاع العنيف عن النفس إضافة إلى عدم توعية الأبناء بالسلوك الحضاري ومخاطر العنف بجميع أشكاله. وزارة التربية تتحمل الجزء الأكبر في بروز وانتشار هذه المشكلة عبر اتخاذها لسلسلة من القرارات والتصاريح الخاطئة …أهمها التلاميذ ملاكه و المعلمون كراية التي عملت على إذابة وتمييع شخصية المعلم بشكل نهائي وتقوية شخصية التلميذ إلى درجة استقوائه الدائم بهذه القرارات عند حدوث أية مشكلة بينه وبين المعلم، وكان من نتائجها السلبية ظهور سلوكيات خطيرة وغير مقبولة في المجال التعليمي من قبل التلاميذ تجاه المعلمين . بقدر ما نتفق مع ضرورة التحرّك الجماعي لرجال التعليم و كل العاملين بالمؤسسات التربوية ضدّ موجة العنف المتنامية داخل و خارج أسوار المدارس و المعاهد و المسلّطة بالأساس نحو الإطار التربوي دون استثناء لتشريع قانون يجرّم العنف بأنواعه ضدّ العاملين بالمؤسسات التربوية لتدارك هذه الظاهرة والسيطرة عليها ومن ثم القضاء عليها بشكل نهائي وجب على وزارة التربية المبادرة الفورية إلى إطلاق «خطة عمل» واضحة ومحددة بجدول زمني من أجل معالجة هذا الملف الشائك و لكن ما يدعو للاستغراب هو تقزيم الموضوع و الاستهانة بالمطلب الذي من أجله ستدخل كلّ المؤسسات التربوية في تحرك نضالي نوعي يجمع كلّ العاملين بالقطاع فما هي الفلسفة التي اتبعتها الهياكل النقابية للاكتفاء بساعتي نضال من أجل مطلب حارق يجمع كلّ من ينتمي إلى هذا القطاع ؟ أم تلويح بمشروع نضالي مستقبلي ؟ أما آن الأوان أن يتوقف العنف بأشكاله وألوانه جميعاً خاصة بعد أن شهدنا منه أشكالاً وأنواعاً لم يسبق لها مثيل من قبل ابتداءً من العنف اللفظي إلى الجسدي ؟ علي قريعة