إلى شاعر المنفى، إلى هذا الذي يحمل قلما في لون وجع الإنسان، وكلمات تشبه الرصاص في وجه الطغيان، وحروفا لا تقتات من موائد السلطان… إلى « الفاضل السالك » (عاشق البحر)، عاشق الوطن، والقادم عبر نصوص متمرّدة على كل طقوس الوثن… لا أدري إن كنت أستطيع الحديث مع الشعراء الذين يستطيعون تفخيخ الكلمات وتفجير القوافي، وتلغيم الوجدانيات، واستجواب المفردات… ففي حالات الإغماء القومي، وحالات الاستقلال الاصطناعي، وحالات التسلح العبثي، وحالات الانتصار الوهمي، فرّ من المعركة كل أولئك الجنرالات الذين تملأ جيوبهم كل أنواع العملة الأجنبية، وتزيّن أكتافهم النياشين الوطنية، والنجوم الذهبية والألقاب الحربية دون معارك أرضية، والقابضين على مختلف الأسلحة الأوتوماتيكية، التي أكلها الصدأ وامتصت عرق الشعوب ولم توجه إلا لصدور الرعية.. لقد فرّ من المعركة كل هؤلاء الجنرالات قبل حتى أن تبدأ المعركة، لتبقى أجسادنا حفاة وتصير هزائمنا معتّقة، وبين الركام والانهيار، تتسلل كتيبة من الشعر لتتولى نيابة عن عجزنا ترميم الصفوف، والتمركز على خطوط التماس، لتعلن التمرد والعصيان وتنتفض على فصول الصمت وكل أنواع الاستسلام، وتبني أصوارا دفاعية حول العقل القومي حتى لا يباع ما بقي من الضمير العربي والذاكرة الجماعية، والشرف التاريخي في المزاد العلني… فكما تحتاج الدول المتجمّدة إلى حكومة إنقاذ، وتحتاج الدول المتوحّشة إلى مؤتمرات تصحيح، فإننا كشعوب تنام على التعب وتستيقظ على الأوهام، وتبيت على الضيم وتصحوا على الفراغ، نحتاج إلى قصيدة إنقاذ، نحتاج إلى نص إنقاذ، نحتاج إلى كتابة صاحية ترجّ الضمائر والعقول، نحتاج إلى قصيدة انقلابية، تنقلب على واقع الزكام وتنقلب على مراسم السلطان، نحتاج إلى قصيدة متمردة، تنتفض على هذا الزمن العربي المتجمّد، الذي تصل حرارته إلى عشرين درجة تحت السطر… مرة أخرى لا أدري إن كنت أستطيع الحديث مع الشعراء، وهل سيسعفني قلمي الشاحب اللون، المثقل بالوجع الإنساني من ترتيب الأفكار، والكتابة تحت السطر وبين السطر وفوق السطر وخارج السطر، عن شاعر لا أعرفه بيولوجيا، وأعرفه من خلال نصوصه المتمردة المعلنة للرفض والعصيان، هل أكتب بعض الاعترافات عن هذا الشاعر القادم من خلف القضبان؟ والذي ينسج للقيد ألف حكاية، ويرسم للحلم أنشودة السفر، مثله مثل « منصف بوسحاقي (1) » الذي لا يكتب الشعر ولا يكتب القصة ولا يكتب النص، ولكنه يحسن رواية سنوات الملح، ويفرّق جليا بين القابض على الألم، وبين القابض نقاهة على ناصية القلم، يميّز جيدا بين من يسبح في الأوجاع، وبين من يحلل عبر الفرجة والاستماع، مثله مثل « شعبان الشارني (2) » الذي هو الآخر يستطيع ترجمة أعوام السجن ورسم سنوات القهر من خلال كثيرا من الصمت، وكثيرا من الحزن المنتشر في العيون وفي الوجه… ربما يتلكأ قلمي الذي لا يتقن لغة المديح، ولا يعرف صبغ البيانات الحجرية، ولا يستطيع صياغة الخطب الفولاذية، ولا يستسيغ الجمل النحاسية، فليعذرني ابن بلدي ( ذاك التونسي الذي لا يحب المداحين) (3) إن تطاولت على الشعر والشعراء وسمحت لنفسي أن أكون وجها لوجه مع شاعر يحمل رسائل مضمونة الوصول ذاك ( التونسي الذي لا يحب المداحين ) الذي في يوم من الأيام انقض حيفا على الكاتب اللبناني « علي أحمد (4) » حين استحسن بعض ما كتبت دون أن تكون بيننا سابق معرفة ولا يعرف حتى لون وجهي، فانهال عليه مع سبق الإصرار والترصد بقاذفات التعابير الجارحة، مما جعله يرحل، ويرحل معه جرحا عميقا واستياء من مجانية الاتهام الذي لا تمحوه سوى عدالة الإله… وأعود من حيث انطلقت، لأكرّر أنني ما كنت لأكتب عن شاعر، لولا أن استفزني فيه ذاك الوجع الكيماوي الذي يحمله، ويحمل معه وجع الأٍرض والتربة والسنابل المائلة، وذاك الربيع المعطل من القدوم إلى أرض ضمآى إلى الاخضرار وإلى رفرفة الطيور… لقد كان هذا ( الفاضل) يعشق البحر، يعشق السباحة فوق زورق الكلمات، لينحت من النص الشعري مركبة للعبور إلى أوطان الحرية، وأرض غير مصابة بفيروسات التصحّر الاستبدادي، وسماء لا تحجبها الأشباح الاستباقية، حيث لم يأت ذاك ( الفاضل ) إلى القصيدة الجريحة، من استراحات الترف الفكري، أو من محطات الرخاء الأوروبي، بل جاء يحمل القصيدة المهرّبة، جاء يحمل وجع السجون، ووجع تلك الأصوات والآهات التي تئنّ خلف القضبان تحلم بالحرية تحلم بالكرامة والانعتاق وتحلم بغذاء ساخن… ففي قصائده أحزان متناثرة، وأوجاع متحركة وأحلام مبعثرة غصبا عن عيون السجّان، لقد ارتسمت جليا سنين المحنة وأعوام العطش بين فواصل الكلمات، حتى صارت القصائد براكين تغلي غليان العاصفة التي تسبق الرعود، ذلك لأن هذا العاشق للسباحة في الجراحات، لم تكن سطوره عطشى للارتواء فقط، بل كانت تحكي وتروي دون ميكروفون وعبر الذبذبات، معاناة أولئك الذين تقاسم معهم العيش في العنابر، وتقاسم معهم الحلم المبتور، وتقاسم معهم العذاب المنثور… فالقصيدة في تصوري إن لم تكن مؤثرة في العقل والوجدان لا حاجة لنا بها في هذا الزمان، والقصيدة إن لم تكن قادرة على ترجمة لحظة تاريخية هي قصيدة بلا أحلام أجدر بها أن تكون في سلة الفضلات، والقصيدة التي لا تستطيع تحريك الهمم، هي قصيدة خرساء تحتاج إلى طاقم إسعاف، والقصيدة التي لا تلتحم بهموم الجماهير، هي قصيدة بلهاء تساعد في تأبيد ليالي المأساة، والقصيدة التي لا ترجّ الواقع هي قصيدة حجرية، أولى بها أن توارى التراب، والقصيدة المتحالفة مع الطغاة، هي قصيدة جبانة مصيرها مصير كل المتعاونين مع الاضطهاد… ولئن كان هذا ( الفاضل ) يتململ باحثا عن الثنايا بين القصيدة والنص، فإنه يحاول النبش في أخاديد تجربة سنوات القيظ وأعوام القحط، ويحاول الانطلاق إلى فضاء الإنسان، دون التقيد بجغرافية الحزن، والتقيد بحدود الصمت… وحتى لا أتجاوز مسافات أصابعي في تفتيت ما لا يمكن أن أكون قادرا على تفتيته، أختصر القول لأقول أن قصائد الفاضل السالك هي بعضا من تأوهات، تبحث عن مساحات تبحث عن دفء أحضان، تبحث عن اهتمام، تبحث عن بقايا أوطان، وتبحث عن استعادة وجه الإنسان… …………………………………………………………………………. (1) ◄« منصف بوسحاقي » / سجين سياسي سابق، عضو بالاتحاد العام التونسي للطلبة، أمضى سنتين بالسجون التونسية، وقد توفي والده « حسن بوسحاقي » في 3 – 10 – 1993 وهو موجود بسجن " صفاقس" (الجمهورية التونسية)، وكان في ذاك اليوم معاقب بالعزلة، ومنعت أمّه من رؤيته مع العلم أنه الابن الوحيد في العائلة، أمضى كذلك ستّ سنوا ت تحت المراقبة الإدارية، وقد تمكن من الحصول على دبلوم مهندس سمعي بصري وهو في حالة اختفاء، في سنة 2003 استطاع دخول فرنسا وتحصّل على اللجوء السياسي. (2) « شعبان الشارني » / طالب في الحقوق عضو قاعدي بالاتحاد العام التونسي للطلبة، أمضى سنتين ونصف بالسجن، وخمس سنوات مراقبة إدارية، تمكن من القدوم إلى فرنسا سنة 2003 وهو طالب لجوء، متزوّج له بنت تسمىّ« نور » عمرها 3 سنوات، توفي أخيرا والده المرحوم « علالة الشارني » في 13 – 12 – 2004 ، وبعد حوالي أربعين يوما ابتلي بوفاة والدته المرحومة « هنية الشارني » التي ماتت في 8 – 1 – 2005 . (3) ◄ انظر نص دعوة للتوقف عن التطبيل والغش بإمضاء تونسي لا يحب المدّاحين الصادر بموقع تونس نيوز 12 – 10 – 2003 (4) راجع مقال المواجهة بورود الكلمات للكاتب اللبناني علي أحمد المنشور بموقع تونس نيوز 2 – 12 – 2003 ▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪▪ نُشِرَ في : ◙ مجلة العصر ← / 2 – 3 – 2005 ◙ تونس نيوز ←/ 4 – 2- 2005 ◙ ليبيا الحرة ← / 20 – 4 – 2005 ◙ شبكة لطيف ←/7- 4 – 2008 ◙ ليبيا المستقبل ← / 7- 4 – 2008 ◙ وطن أمريكا ←/ 8 – 4- 2008