على خلفية الاضراب المفاجئ الأخير لأعوان البريد وما أثاره من ردود أفعال مختلفة ومن انتقادات للعمل النقابي وللاتحاد العام التونسي للشغل الذي ظهر أنه غير قادر في الكثير من الأحيان على السيطرة على قواعده… لقد لا حطنا كيف صب الكثير من الصحفيين ووسائل الإعلام جام غضبهم على عمال البريد متعللين بأنهم تسببوا في تعطيل مصالح المواطنين من أجل موضوع بسيط… وأن مثل هذه التصرفات أصبحت غير مقبولة وأنه لا بد من إيقاف الاتحاد وقواعده لانفلاتهم الذي أصبح لا يطاق ويهدد المصالح العليا للدولة… لكن الذي كان يتم اخفاؤه عن الرأي العام خلال هذه الحملة الشرسة وموجة الانتقادات اللاذعة للاتحاد وهياكله هو أننا أصبحنا اليوم نعيش في دولة محكومة من طرف مجموعات ضغط ونفوذ مختلفة ومتصارعة… والسلطة السياسية في البلاد (أي الحكومة) لا تمثل إلا طرفا واحدا من هذه الأطراف ذات النفوذ القوي على كل ما يحدث داخل البلاد.. والأكيد أن السلطة السياسية القائمة حاليا ليست هي صاحبة النفوذ الأقوى من بين الآخرين وهذا أصبح واضحا للجميع… ففي تونس هناك مجموعة كبيرة من اللوبيات المتنفذة والمتغولة.. نذكر من بينها لوبي رجال الأعمال.. ولوبي العمال والمنظمات العمالية… ولوبي الإعلام… ولوبي التهريب.. ولوبي الإرهاب… إضافة إلى النفوذ القوي والمتنامي للقوى الخارجية ولتدخلها المباشر في كل صغيرة وكبيرة في كل ما يصدر من قرارات وفي كل ما يحدث في البلاد …ومن هذا المنطلق فإنه وحسب رأيينا المتواضع لا يمكن أن نضع كل اللوم على طرف واحد ونحمله مسؤولية الاضرار بالوطن والمواطنين… إن السلطة التي يخرج أحد وزرائها ليقدم جملة من المسوغات "مهما كانت موضوعية أو منطقية" لتبرير رفض الدولة القبول بتنفيذ أحكام القضاء لا يمكن البتة اعتبارها سلطة مسؤولة.. القاعدة تقول "أطبق القانون ولو كان مرفوضا ثم أطالب بتغييره" هذا ما تقوله السلطة للشعب عندما تقوم بإقرار بعض القوانين الغير شعبية أما أن تصبح السلطة الحاكمة هي أول الداعين لانتهاك القانون وأحكامه تحت أي تعلة فنحن لم يعد بمقدورنا أن نتحدث عن دولة هنا… ولذلك فإن من لا يحترم نفسه لا يحترمه الآخرون… والدولة التي لا تكون على رأس الحريصين على تنفيذ القوانين والخضوع لأحكام القضاء فيها تشرع للانفلات والعشوائية …وأحد مظاهرهذا الانفلات الإضرابات العشوائية… من ناحية أخرى السلطة القائمة لا تنفك تغازل الاتحاد العام التونسي للشغل.. وتقوم في كل مرة عندما تجد نفسها في مأزق بدعوته للوقوف في صفها ودعم خياراتها وذلك عن طريق استمالته للمشاركة في الحكم … لكن هذا الأمر أربك أداء القيادات النقابية في الاتحاد وأفقد الكثير من القواعد الثقة فيها.. فكيف يمكن إقناع العمال بأن السلطة التي تضرب حقوقهم وتحاول أن تستغلهم إلى آخر قطرة من عرقهم ودمهم .. وتتنصل من تنفيذ الاتفاقيات المبرمة معهم ولا تفعل شيئا من أجل حماية حقوقهم ولا حماية مقدرتهم الشرائية ولا توفير الشغل للعاطلين ولا حتى حماية مواطن الشغل القائمة … أنها تبغي شراكة متكافئة مع الاتحاد وليس مجرد استغلال واستخدام وترويض كما حدث في السابق على حساب القواعد من العاملين بالفكر والساعد وعلى حساب الوطن ؟؟؟ الذي يميز المشهد السياسي الحالي في تونس هو هذا الصراع الخفي على الحكم بين منظومة الحكم السابق والقوى المتحالفة معها وبين التيار الإسلامي القوي والذي أظهر قدرة كبيرة من التنظيم والقدرة على المناورة والصمود… والذي زاد من إرباك الجميع بعد مؤتمره الأخير…. وهذا الصراع جعل تلك القوى تسير في واد والبلد يسير في واد آخر… لقد أدرك المواطن البسيط والعمال خاصة أن القانون والنظام والسلطة لم يعد بالإمكان الاعتماد عليهما في حفظ الحقوق… وأن القوة وحدها هي التي تجعل الآخرين يرتدعون ويقرؤون لك ألف حساب… لذلك نرى هذا الصراع الخفي في الكثير من الأحيان والعلني في أحيان أخرى بين مختلف القوى المتصارعة من أجل حماية كل واحد منها لمصالحه… وهذا بالطبع سيكون حتما على حساب مصلحة الشعب والوطن التي نرى اليوم أنها أصبحت من أخر اهتمامات الجميع… إن السلطة التي تجعل على رأس أولوياتها تبييض الفساد واللصوصية والاختلاس وتدعم سعي الفاسدين من الافلات من المحاسبة والعقاب وترتهن اقتصاد البلاد للاقتراض وتتلاعب بالاستثمار والدينار وتفتح أرضها للقواعد الأجنبية وتتهاون في محاربة الفساد والتهريب وتسخر إمكانياتها من أجل خدمة أطراف على حسب وطن وشعب… لا يمكن أن تكون محل احترام وتقدير من أحد بما حول العلاقة بينها وبين المجتمع إلى علاقة صراع وتحد وعداء… إذا فالقضية ليست قضية أياد مرتعشة كما يريد أن يظهرها الإعلام الموجه والمدفوع الأجر من أجل الدتبرير للقمع واستعمال العنف والعودة إلى النظام التسلطي الدكتاتوري… وإنما هي قضية سلطة فاسدة … سلطة تتلاعب بمصير وطن وشعب… وهذا ما جعل الانفلات يحل محل النظام.. والفوضى تحل محل القانون… ولذلك نحن نحس أننا أصبحانا نعيش في بلادنا وسط غاب كبير… حوت ياكل حوت.. وقليل الجهد يموت… وسيستمر هذا الوضع طالما سعت السلطة للتطبيق الانتقائي للقانون .. لذلك فعلى الجميع أن يحددوا خياراتهم سلطة ومعارضة وشعبا .. إما عدالة وانصاف وقانون فوق الجميع… لا يفرق بين كبير أو صغير ولا بين غني أو فقير وإما فإنها الفوضى العامة التي لن تكون إلا هدامة رغم أنف "رايس" ومن لف لفها…