كم هو غير طبيعي هذا الذي يحصل من حولنا… إنه يكاد يكون خارج المنطق… خارج التصور … خارج الفهم.. من المفترض أننا شعب واحد… يتكلم لغة واحدة… يعتنق في الغالبية العظمى دينا واحدا …ومذهبا واحدا…. لنا تاريخ مشترك ضارب في القدم…. خضنا كل صراعاتنا وانتصاراتنا وانكساراتنا معا… صقلت السنون تجاربنا… وثقافتنا… وتجربتنا… العديد من الحضارات مرت من هنا… العديد من الأعراق والأجناس والغزاة… لكن هذا الوطن نجح في تشكيل هذا الشعب بكل خصوصياته وتمايزاته في إطار وحدته… لم يتقاعس التونسيون عن التكاتف والتضامن والتعاون خلال كل الشدائد التي مرت بهم… فيوم أن قرروا التصدي للغزاة ..هب جميعهم هبة رجل واحد من شمالهم إلى جنوبهم ومن شرقهم إلى غربهم… ويوم قرروا التناغم والتماهي مع حضارة ما اندمجوا فيها عن بكرة أبيهم…. وما تجربة التحرر الوطني من ربقة الاحتلال الفرنسي ببعيدة عنا… وما انخراط الجميع في بناء الدولة الحديثة إلا تأكيد لتلك اللحمة التي كانت السلاح الأول الذي واجه به التونسيون أعداءهم الماديين من محتلين ونظريين كالفقر والجهل والمرض والأمية …. وطوال السنوات التي تلت حصول تونس على استقلالها… ورغم كل ما تعرضت له البلاد من هزات وأزمات إلا أن الوطن والشعب بقيا وحدة صماء.. حتى رغم الحيف وعدم المساواة التي تعامل بها النظامان السابقان البورقيبي والنوفمبري مع مختلف جهات البلاد إلا أن ذلك لم يهز الوحدة الوطنية (رغم ما تركه من جراح في نفوس أبناء الجهات المحرومة ) فكل ذلك لم يدفع أيا من تلك الجهات في التفكير أو العمل خارج منطق الوحدة الوطنية… وجاءت الثورة… الثورة التي نحيي هذه الأيام ذكراها السادسة…. لقد كان من بين أكبر أسباب نجاح تلك الثورة هو ما عرفته من تضامن بين مختلف جهات البلاد… فالتونسيون لم يسمحوا للنظام الدكتاتوري القمعي لبن علي بأن يستفرد ببعض جهات الوطن بدعوى أنها جهات مخربة وأن مواطنيها هم مجموعات من المخربين والفوضويين… لقد انتشر الغضب بين أبناء مختلف جهات البلاد كما تنتشر النار في الهشيم وهم يرون ما تفعله آلة القمع النوفمبيرية الإجرامية بأبناء جزء عزيز من جسد الوطن الواحد… فخرجت المظاهرات في كل مكان واشتعلت كل المناطق وأدرك النظام أنه لم يعد له قدرة على الاستمرار فتهاوى مثل ستار من التراب نخر الماء قاعدته… لقد رأينا كيف تقاطر التونسيون من كل حدب وصوب يوم 14 جانفي 2011 أمام وزارة الداخلية للمطالبة برحيل المخلوع… الذي أجرم في حق شعب ووطن… لقد التحمت الجماهير القادمة من كل ربوع الوطن في ذلك اليوم الأغر لتعبر عن مهجة أبناء شعب كامل مل من الظلم والاستبداد والقهر… وقرر أن يفتك حريته ويأخذ مصيره بيده… رحل بن علي… وجاءت الحكومات من بعده الواحدة تلو الأخرى… وكانت كل واحدة تفتح للتونسيين في الجنة ذراعا وتعدهم بالرفاهية والعظمة والقوة والمنعة… ولكن كل وعودها تلك كانت تذهب سريعا أدراج الرياح نتيجة التناحر والتكالب على الحكم.. ليفيق التونسيون على الحقيقة المرة… حقيقة التخبط والفشل وعدم الجدية والاختلاف والخلاف…. لقد غرق السياسيون في خلافاتهم وأغرقوا البلاد والعباد معهم…. لم يكن السياسيون – (وخاصة من المعارضة المقموعة في عهود الاستبداد والذين قدم لهم التونسيون فرصة ذهبية وهدية لم يكونوا يوما ليحلموا بها ) – في المستوى المطلوب… فلم يكن همهم خدمة هذا الشعب ولا خدمة هذا الوطن.. كما أنهم لم يقدروا على تجاوز عداواتهم ولا خلافاتهم الماضية الإيديولوجية منها ولا حتى السياسية… فراح كل طرف يعمل على تشويه الآخر… ويستقوي على ذلك بأطراف من الداخل أوحتى من الخارج ( وهي أطراف آخر همها مصلحة هذا الشعب وهذا الوطن) من أجل الانفراد بالحكم وتغليب وجهة نظره على أخرى ولو بالقوة وفرضها على الجميع وإلغاء كل من يمثل تهديدا أو وجهة نظر مغايرة …. وهكذا انخرط الجميع وخاصة عبر وسائل الإعلام في حرب تفرقة وتقسيم وتخوين وتكفير وتحقير لبعضهم البعض وللتونسيين بعضهم ببعض حرب تفرقة وتخوين لم يشهد لها التونسيون مثيلا حتى في أحلك فتراتهم التاريخية…. والغريب أن هؤلاء راحوا يعملون كل ما في وسعهم حتى تتحول تلك الخصومات وذلك التنافر إلى مستوى الجماهير ومستوى المواطنين… وهكذا أصبحنا نرى كيف بدأت تطفوا خطابات الكراهية والتفرقة من جديد ممثلة في عودة النزعات الجهوية والنزعات الطبقية والخلافات الإيديولوجية والصراعات الفكرية… والتي لا زالت إلى اليوم تجد من يغذيها وذلك بسكب الزيت على النار من خلال الحديث عن ظلاميين وحداثيين… ومتنورين وجهلة… ومتخلفين وتقدميين… وأبناء المناطق المحظوظة وأبناء المناطق المحرومة… وبيض وسود.. وعمال وعاطلين … وشماليين وجنوبيين…وسواحلية وغير سواحلية …ومن يشبهوننا ومن لا يشبهوننا… ومن يحق لهم الحصول على الجنسية التونسية وعلى جنسيات غيرها ومن يجب سحب حتى الجنسية التونسية منهم… وعن المزاطيل وعن الهاربين لله… وعن الطبيعيين وغيرعن الطبيعيين.. وعن الشهداء وعن غير الشهداء… وما يؤلم أكثر ..أن هؤلاء الذين يبثون خطابات الكراهية والحقد والتفرقة هذه بين أبناء الشعب الواحد والذين وجدوا أنفسهم يقحمون إقحاما في مثل هذه الصراعات الوهمية التي حادت بهم وبثورتهم عن نهجها وجوهرها وساقت البلاد والعباد إلى معارك وهمية مصطنعة ومفتعلة لا غاية لها إلا بث الخوف والرعب في قلوب التونسيين وإدخال الشك والريبة فيما بينهم حتى لا يطمئن واحد منهم إلى الآخر ولا يبقى شيء يعني أي واحد منهم إلا الخلاص الفردي… هؤلاء أصبحوا معلومين للقاصي والداني… من رجال سياسة ورجال إعلام.. يكتبون وينشطون عبر وسائل إلعلام معروفة …لا هم لهم إلا بث الفتن والكراهية بين التونسيين والغريب أن أحدا لا يعترض سبيلهم.. أو يوقفهم عند حدهم…. لا حكومة ولا نقابة ولا منظمات… وكأنهم فوق المساءلة وفوق القانون… بل على العكس من ذلك إنهم يجدون الدعم والحظوة والتبجيل والتوسيم والتكريم بدعوى حرية التعبير ومن طرف الجميع حتى من طرف المنظمات الدولية وبعض المؤسسات العسكرية الأجنبية ؟؟ وإن من أغرب الأمثلة على هؤلاء الذين لا يفوتون فرصة دون العمل على بث الفتنة بين أبناء الوطن تلك التي من المفترض أنها باحثة جامعية عظيمة وكبيرة جدا والمسماة " ألفة يوسف"… فهذه السيدة التي لا ندري هل هي مثقفة أم سياسية أم إعلامية أم ناشطة جمعياتية أم هي كل ذلك في نفس الوقت .. والتي انتمت يوما ما للحزب الحاكم "النداء" ثم انسحبت منه غاضبة .. والتي كانت في يوم ما من صنائع النظام النوفمبري… لم تنفك عبر عمودها على الصفحة الثانية من جريدة الصريح تهدد التونسيين بحمام الدم القادم .. وترى أن التونسيين صنفان… صنف وطني سيقدم خلال هذه الأشهر الأولى من السنة الجديدة 2017 بتطهير البلاد من غير الوطنيين والمجرمين والإرهابيين …. وصنف ثان هم الإرهابيون والظلاميون والمتخلفون وهؤلاء لا بد من القضاء عليهم حتى تتخلص البلاد من شرهم… فهل هناك خطاب أوضح من هذا يدعوا إلى إشعال فتنة في البلاد ويؤكد أنه ستقوم أحداث دامية خلال الأيام القادمة وأن تلك الأحداث الدامية ستطهر البلاد وتأتي بالوطنيين إلى الحكم؟؟؟ ولا أحد يوقف هذه السيدة ولا أحد يستنكر ما تكتبه ولا أحد يحقق معها عن المعلومات التي تمتلكها والتي تجعلها متأكدة إلى تلك الدرجة مما تقول ؟؟؟ وهاهي اليوم عبر صفحات نفس الجريدة جريدة "الصريح" تدعو التونسيين للتظاهر واحتلال الشوارع يوم الأحد 8 جانفي 2017 على الساعة الحادية عشرة بشارع الحبيب بورقيبة… وهذه الدعوة في ظاهرها تهدف إلى تحفيز الحكومة على التعامل الحازم مع عودة الإرهابيين … لكن عندما نربط هذه الدعوة بتصريحاتها السابقة ندرك تماما أنها تستهدف جس نبض الشارع التونسي ومدى استعداده للخروج إلى الشوارع .. في إطار ما وعدت به من حمام دم ومن تطهير للبلد من كل الخونة والمجرمين ؟؟؟ وذلك في إطار المشروع الذي تقول أن جملة من الرجال الوطنيين التونسيين هم من يقفون وراءه…؟؟؟ وربما ما شهدته بعض المناطق مثل القصرين وغيرها من أحداث شغب يندرج في ذلك المخطط الذي من المؤكد أنه تقف وراءه أطراف لا تريد الخير لهذا البلد… وما ألفة يوسف إلا عينة وحلقة من شبكة عنكبوتية من اللوبيات ذات الأهداف الغير طيبة لهذا البلد وهذا الشعب…. فكيف يتم السكوت عن كل هذا؟؟؟ وهل أن هذا السكوت خاصة من الحكومة وأصحاب القرار هو دليل موافقة ودعم وتبني لما يقال وما حدث وما سيحدث من قبل هؤلاء ؟؟؟ أم أن هؤلاء هم أقوى بحكم علاقاتهم وارتباطاتهم بالداخل والخارج من الدولة ومن الحكومة الغارقة في فشلها وتخبطها وانقساماتها وتجاذباتها ومشاكلها ؟؟؟ أم أن تونس أصبحت فعلا سفينة بدون ربان ترتع فيها المخابرات وتتم فيها الاغتيالات وتفرض فيها السياسات والإملاء وتستباح فيها المحرمات والمقدسات والكرامة والأعراض والحدود وكل المجلات ؟؟؟ ولا من حسيب ولا ومن رقيب ؟؟؟ حقا إننا نعيش في مأساة… ويالها من مأساة… عبد العزيز الرباعي.