وسط صحراء قاحلة… كان الناس يعيشون فيها على الشظف … لكن تمكن من يحسنون استثمار الأوضاع منهم من شق طريقهم نحو القمة رغم صعوبة تلك الظروف وقلة الفرص التي تقدمها والتربع على أعى هرم السلطة والثروة والسيادة… وهكذا استتب لهم الأمر وراحوا يتحكمون في كل شيء ويدعمون أسلوب الحياة الذي ضمن لهم تلك المكانة وراحوا يسخرون كل ما توفر لهم من إمكانات من أجل احفاظ على أسلوب الحياة ذاك ونمط المجتمع الذي يمثلون هم أعلى هرمه وأسياده بلا منازع…. ولكن حدث أن تفجر في تلك الصحراء العجفاء ينبوع ماء رقراق غزير المياه … وراحت تلك المياه الزلال تتدفق لتروي الأرض الجدباء… وبدأ الناس يستبشرون خيرا بهذا الخير العميم الذي آتاهم من حيث لا يحتسبون… ولكن أسياد القوم لم يعجبهم ذلك… ورأوا في تلك النعمة القادمة نقمة عليهم وعلى نفوذهم وعلى مصالحهم وعلى تجارتهم وثروتهم… وهكذا قرروا أن يتحركوا بسرعة قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة ويظهر نمط جديد من الاقتصاد والحياة يمكن أن يذهب بسلطانهم وسطوتهم وثروتهم…. ويعلي من شأن أناس آخرين … ويخر حال البلاد من حال إلى غير حال…. وهكذا سارع أسياد تلك البلاد إلى محاولة ردم تلك العين المتدفقة وخنقها في مهدها… ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل .. فقد كان تدفق المياه من القوة بأنه دفع بكل الحواجز التي وضعت في طريقه ليواصل تدفقه بنفس القوة والعذوبة والصفاء… وهنا التجأ علية القوم إلى أسلوب الخداع والكذب والكيد… فقد أوهموا الناس أن ذلك النهر المتفق من باطن الأرض إنما هو نهر مشؤوم وأن مياهه تصيب كل من يشربها بالجنون والخبل والعته … وللتدليل على صدق كلامهم استخدموا مجموعة من أتباعهم لتمثل العته والجنون بعد أن قاموا بشرب الماء من ذلك النبع أمام الجميع…. وهكذا وضع زعماء تلك البلاد حراسة جديدة حول النبع ومجراه ليمنعوا الناس من وروده وقاموا بإصدار القوانين الصارمة التي تدين كل من يقترب من ذلك النبع والتي تصل حد الإعدام… ولكن بعض المعدمين والمهمشين ممن لم يكن لهم مايمكن أن يخسروه.. وبعض أصحاب الرأي ممن لم يستسيغوا ولم يقتنعوا بما تم اتخاذه من تدابير وما تم ترويجه من أخبار … وبعض المغامرين الجسورين الذين لم يكن تهمهم أو تخيفهم مثل تلك التدابير … قرروا أن يتأكدوا بأنفسهم مما زعمه أعيان تلك البلاد حول ذلك النبع خاصة وأنه كانت لهم شكوك كبيرة في سلوك أشراف قومهم من أنهم ما فعلوا ذلك إلا للاستئثار بذلك الخير لمصلحتهم فقط دون غيرهم من أبناء تلك الأرض…. وهكذا فقد قرروا على التسلل إلى ذلك النبع والشرب من مياهه في طي الكتمان حتى يقفوا على حقيقة الأمر. وهكذا تبين لهم في نهاية المطاف حقيقة الأمور… وتأكدوا أن الحسد والحقد والأنانية العمياء هي من جعلت زعماء تلك البلاد يمنعون الناس من ارتياد ذلك النهر الذي يروي ماؤه الزلال الظمأ ويشفي من العطش ويبعث الحياة في الهشيم… وهكذا بدؤوا في نشر الخبر بين الناس ولكن في سرية تامة مخافة أن يتفطن لهم كبار القوم فيقضون عليهم ويفنونهم عن أخرهم ويموت سر النبع معهم… ولكن وبعد مرور فترة طويلة من القحط .. جفت خلالها معظم الآبار … والينابيع في تلك البلاد… وقل الكلأ واشتد الجوع وعم الجوع والفاقة الجميع… بدأ حديث النبع يطفو على السطح من جديد… وبدأ الناس يطالبون بإعادة النظر في فتح النبع وإعادة محاولة استخدام مياهه… خاصة وأنهم رأوا أعيان قومهم وأشرافهم لا يعانون مما يعانونه هم من عطش وقحط وجوع… فالآبار والينابيع التي جفت هي مصادر المياه الوحيدة في المنطقة.. وإن جفت فذلك يعني أنها جفت على الجميع.. فمن أين يرتوي كبار القوم وأنعامهم وأعوانهم وجنودهم إن لم يكن من مصدر آخر غير تلك المصادر التي أصابها الجفاف ؟؟؟ وذلك لا يكون إلا من مياه النبع الجديد… وهكذا ارتفع عدد الناس المتمردين على قانون منع استخدام مياه النبع أو الارتواء منه.. ورغم كل القمع الذي جوبه به الناس .. ورغم التعذيب والنفي والقتل الذي لاحق كل من تم اكتشاف نهله من ذلك النبع إلا أن عدد المتمردين على تلك التدابير وتلك القوانين راح يزداد يوما بعد يوم… حتى أصبح خبر النبع الصافي الزلال منتشرا بين الأمصار وراح الناس يتدفقون عليه من كل حدب وصوب أفواجا . وهكذا أسقط بيد أشراف تلك البلاد ولم يعد لهم من قدرة على منع الناس من الوصول إلى ما يحييهم… رغم كل المكائد والحروب التي خاضوها من أجل الحؤول بين الناس وبين نبع الحياة ذاك… والارتواء منه… وما إن أدرك الناس ما في ذلك النبع من فضل وما عليه من صفاء والخير العميم الذي يمكن أن ينشره أينما حل حتى أوسعوا له في كل مكان فامتد متدفقا رقراقا ينشر الخير والنماء أينما حل… ولكن امتداده ذاك لم يعجب الكثيرين…خاصة في تلك البلاد البعيدة التي لم يكن أحد فيها يعتقد يوما أن تلك الأرض القاحلة العجفاء أرض الرعاة والأجلاف يمكن أن يتدفق فيها مثل ذلك النبع الصافي العظيم الذي تتدفق مياهه إلى كل بقاع الأرض…. خاصة وأنهم رأوا ما يفعله ذلك النبع بكل الذين ينهل من عذب مياهه… فراحوا يضعون السدود والعراقيل في طريقه.. ويحاولون تدنيس مياهه بشتى السبل… ثم عمدوا إلى أصحاب ذلك النبع يبثون الحقد والبغضاء والعداوة بينهم علهم يفسدون عليهم أمرهم ويؤلبون بعضهم على بعض … فنجحوا في أحيان وفشلوا في أحيان أخرى… ورغم ما أصاب أصحاب ذلك النبع من وهن وضعف وتخبط وحيرة وضياع… ورغم ذهاب ريحهم وتشتت جمعهم وتلبس الأمور أمام بصائرهم وتكالب أعدائهم عليهم … إلا أن ذلك النبع لا زال يدفق كما تدفق أول مرة… ولازالت مياهه الرقراقة العذبة تبعث في من يرتادها الحياة والسكينة والسلام والعزة والطمئنينة…. ولكن الكثيرين اليوم لا يزالون يصرون وبشكل غير مسبوق على تكرار تجارب من سبقوهم في تخويف الناس وترهيبهم من الاقتراب من ذلك النبع بنشر نفس تلك الأراجيف السابقة .. ولا يزالون يسخرون من أجل ذلك الكثير من الجهد والأموال والأتباع حتى يقنعوا كل من اقترب من ذلك النبع الصافي أن الشؤم سيلاحقه إن هو اغتراف غرفة منه وقربها من فمه وأدخلها إلى جوفه وسرت عبر شرايينه… لأنها ستحوله من حال إلى غير حال… لقد تأكدوا عبر السنين الطوال أنه كلما كثر عدد الشاربين والمرتوين من ذلك النبع العظيم فإن سطوتهم ستضعف وأن ريحهم ستذهب وأن نيرانهم ستخبوا لفائدة رواد ذلك النبع… لذلك فقد استقر عندهم الرأي أنه لا بقاء لطريقتهم ولا استمرار لأسلوبهم ونهجهم… ولا نجاح لمخططاتهم.. ولا دوام لهيمنتهم وتفوقهم إلى بتشويه صورة ذلك النبع وكل أصحابه في عيون الجميع… حتى يعيدوه إلى غربته ويحاصروه كما حاصروه في الماضي ويعيدوه إلى غربته كما بدأ غريبا… لكن قانون الحياة يقول … إنه ما من حياة من دون ماء… وإنه مهما فعل الجبابرة من أجل منع نبع الحياة عن الناس فإن الحياة ستخرج من تحت الركام والدمار مادام ما يتدفق من تحتها ماء فرات…. "والله متم نوره ولو كره الكافرون" صدق الله العظيم