في أقل من ثلاث دقائق قدم رئيس الحكومة التونسي يوسف الشاهد، كشفا لحصيلة السنوات الست التي تلت غياب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي عن سدة الحكم في بلاده، في ظروف مجهولة، ليقول في كلمة نقلها التلفزيون الرسمي بأن «هناك نجاحات وهناك اخفاقات»، موضحا أن نجاح الانتقال السياسي يكمن في وجود أحزاب وتعددية حزبية وحرية صحافة ودستور يضمن الحقوق وحرية المعتقد والضمير. مضيفا أنه إن اردنا أن تبقى تلك الديمقراطية صلبة وقوية وتحقق أهدافها فينبغي تحقيق الكرامة والتشغيل. وهو ما لم ننجح فيه مثلما جزم الشاهد، فالبطالة زادت والفوراق الاجتماعية ارتفعت والجهات المهمشة ظلت على حالها. والسبب هو صعوبة الوضع الأمني والإقليمي وعجز الحكومة عن القيام بما وصفها «الاصلاحات الضرورية» في الاقتصاد وفي دور الدولة والقطاع الخاص. خطاب المسؤول التونسي عشية تلك الذكرى وحديثه عن السنوات الست بذلك القدر من التوازن النسبي، وحرصه على الظهور في ثوب المحلل الحيادي والموضوعي، من خلال عرض ما اعتبرها مواطن نجاحا واخفاقا لم يكن ليعكس في شيء طبيعة المشاعر المضطربة والمشوشة التي يعيشها التونسيون، كلما قاموا بجرد سريع لما حصلوا عليه بعد الرابع عشر من يناير، من مكاسب عينية وحقيقية واخرى افتراضية أو وهمية. ومن الواضح أن احلامهم وطموحاتهم قبل سنوات من الان اي في اللحظة التي احسوا فيها بان نظام بن علي اوشك على الانهيار والسقوط كانت جارفة وغير محدودة مثلما أن آمالهم في أن تنقلب اوضاعهم بعد هروبه مئة وثمانين درجة ويصبحوا في رمشة عين مواطنين احرارا ينعمون دفعة واحدة بالخبز والكرامة والامن والرخاء، تجاوزت كل الخطوط والتوقعات. كان ارتفاع سقف طموحاتهم واحلامهم واحدا من الاسباب التي جعلتهم يدفعون في نهاية الامر ثمن الافراط الزائد في الخيال، ويصطدمون بتعقد الواقع وتنوع وتعدد صعوباته، ويكتشفون بشيء من المرارة انهم كانوا ضحايا خديعة كبرى لعبوا فيها دور كومبارس يؤدي دوره بحماسة وشغف وهمة، ولكنه لا يجني سوى الثناء المحدود فيما ينال النجوم الحقيقيون كل الجوائز التقديرية والشهرة والمجد والثراء. والمأساة الحقيقية هي انهم لم يروا أن هناك رابطا حقيقيا بين الاحداث، وقطعوا على الفور كل خطوط الوصل بين الحقب الزمنية، وكأنهم لا يتصورون أن هناك طائلا أو جدوى من تأمل الماضي وفهمه، حتى لا تستنسخ اخطاؤه مرة اخرى وتتكرر مآسيه ولو بأشكال مستجدة. وانقادوا بالمقابل تحت تأثير ما ردده بعض السياسيين، وما نشرته معظم وسائل اعلامهم المحلية إلى ضرب مقارنات مختلة وغير متكافئة بالمرة، بين بعض الجوانب والفصول التي حصلت زمن الاستبداد وتلك التي شهدتها تونس في السنوات الست الاخيرة. لم يكن باستطاعتهم أن يصموا آذانهم طويلا عن الحديث المتواصل عن الفرق بين الارقام الفلكية التي كان النظام يقدمها عن نسب النمو والصحة والتعليم والارقام الكارثية التي تسابق عدد من الخبراء لعرضها بشكل متواتر، مع كثير من التضخيم والتهويل. والنتيجة انهم صاروا يتوهمون انهم كانوا يعيشون في جنة، حكموا على انفسهم في لحظة نزق وطيش بالخروج منها، يوم أطلقوا شعار «الشعب يريد اسقاط النظام» وطالبوا رئيسهم بالرحيل. الفرق بين الانتقال السياسي والانتقال الاجتماعي والاقتصادي لا يبدو واضحا في اذهانهم، وهم لا يفهمون بشكل دقيق ما الذي قصده يوسف الشاهد حين قال في خطاب امام طلبة إحدى الجامعات بأن «الهدف في السنوات الست الاخيرة هو الانتقال الديمقراطي، أما الهدف اليوم وأولوية الاولويات فقد صار تحقيق الاهداف الاجتماعية والاقتصادية للثورة». هل اجبر بن علي في الرابع عشر من يناير على المغادرة بتلك الطريقة المذلة فقط حتى يحصل انتقال سياسي محدود داخل السلطة، يقصي رئيسا ويبقى نظامه؟ وإن كان الامر كذلك فما الجدوى اذن من استبدال رئيس بآخر مادامت الفجوة بين الدولة والشعب ماتزال على حالها، بل تزدادا تعمقا واتساعا؟ إن الكلمتين اللتين باتتا تتكرران الان باستمرار على ألسنة كبار المسؤولين التونسيين هما «الاصلاحات» و»الالتزامات». الاصلاحات التي يراها الشاهد ضرورية ومطلوبة لتحقيق الاهداف الاجتماعية والاقتصادية للثورة. والالتزامات التي اكد قائد السبسي لوكالة فرانس براس، أن بلاده لن تتخلى عنها حين صرح لها بانه» على اوروبا أن تطمئن، فتونس بلد يتحمل مسؤولياته». ولكن معظم الناس باتوا لا يرددون سوى كلمة واحدة وهي ما الذي كسبناه من الثورة وما الذي ينتظرنا في المستقبل؟ وفيما تتعرض السلطات إلى ضغوط خارجية قوية لمباشرة تلك الاصلاحات وتجديد تلك الالتزامات وتقويتها، لا يرى المنتظرون انفسهم مقيدين بغير المصالح الفردية والفئوية المحدودة ولا يظهرون حماسا كبيرا لتحمل قسط من المسؤولية عن تغيير اوضاعهم. لقد اعتادوا على الوصفات والحلول الجاهزة، وجعلتهم سنوات الاستبداد الطويلة يعيشون حالة من الشلل والجمود الفكري صارت تمنعهم من التفكير الحر خارج المربعات التقليدية. كان بورقيبة طوال عهده الذي استمر ثلاثين عاما يقول لهم إن الديمقراطية التامة والكاملة مفسدة مطلقة للدولة، وزاد بن علي فأخبرهم بعد أن اطاح بأب الامة، بأن ولاءهم للنظام الجديد سوف يضمن لهم امرين وهما الامان ولقمة العيش. وظلوا مثل الفراشات الحائرة والمجنونة مشدوهين للمظاهر والاضواء، حتى وهم يسمعون قصصا مثيرة وعجيبة عن نهم العصابات العائلية وشرهها اللامحدود للجمع بين السلطة والثروة. لكن لا احد منهم صدق أن احتراق شاب مجهول في بلدة صغيرة ونائية سوف يهز اركان النظام ويعجل بحصول انفجار اكثر اثرا واشد قوة مما كان يحصل في السابق. كانوا يعتقدون أن بن علي الذي ظهر امامهم خائفا ومرعوبا وهو يقول» أنا فهمتكم» يملك احتياطيا استراتيجيا كافيا من القوة، يسمح له باخماد الحرائق ومسك الامور مجددا بيد من حديد. ولكن اختفاءه في تلك الظروف الغامضة جعلهم يعتقدون أن الانفجار الاجتماعي الذي حصل بسبب استشراء الفساد وتفاقم الظلم سوف يعجل بتعديل الكفة المختلة منذ ستين عاما بين حقوقهم كأفراد وحقوقهم كمواطنين. وسرعان ما اكتشفوا أن الانفجار الذي حصل قبل ست سنوات من الان لم يحقق ذلك التوزان المنشود، بقدر ما سمح للنظام بالتجدد والتجمل، بعد أن تلطخت صورته وتشوهت بفعل عمليات القتل والتنكيل والتضييق التي مارسها ضد كل من كان يبدي قدرا من المعارضة والاحتجاج عليه. الصورة العملاقة اختفت وزالت باختفائها بعض الحواجز النفسية التقليدية بين الحكام والمحكومين. غير أن السواد الاكبر من الناس ظل مبعدا عن مواقع القرار وغارقا في همومه اليومية، ومشغولا بالجري وراء لقمة العيش، ناسيا أو متناسيا انه قبل ست سنوات من الان خرج إلى الشوارع مرددا «خبز وماء وبن علي لا» ليكتشف بعد ذلك أن العيش على الخبز والماء لم يعد ممكنا، حتى بعد الاطاحة بابن علي وغيابه، وأن مرحلة الشعارات الثورية الكبرى والتضحيات المفتوحة ولت وانقضت. إن ازاحة الديكتاتور التي كانوا يظنون انها هدف في حد ذاته لم تطعمهم من جوع أو تأمنهم من خوف، ولم تصحح الاختلال الحاد في توزع السلطة والثروة بين الافراد والمناطق. لقد ظلت الامور على حالها وربما كان ما كتبه احد الظرفاء على حسابه على فيسبوك من أن «الناس كانوا في عهد بن علي يخافون من فتح افواههم خشية الموت وصاروا بعده يفتحونها ثم يموتون» هو الترجمة الفعلية لذلك. لكن رغم النقائص والاخفاقات ألا يحق للتونسيين أن يفخروا مثلما قال الشيخ راشد الغنوشي من أن سفينتهم ثبتت فيما غرقت عدة سفن في السنوات الست الاخيرة؟ قد يصح ذلك فقط في حال ما اذا كانت» تعددية الاحزاب وحرية الصحافة ووجود دستور يضمن الحقوق وحرية المعتقد والضمير» التي تحدث عنها يوسف الشاهد تعني شيئا للناس وتجعلهم يتمسكون بالسفينة ويعملون يدا بيد على حمايتها من الغرق، ولكن الواقع يدل على أن اعداد الراغبين في تركها والمغامرة في الارتماء في عرض البحر تزداد يوما بعد اخر، وأن هناك اخرين من بين الباقين على ظهرها يعملون بلا كلل أو ملل على خرقها، أملا في حصول انفجار اخر قد يعيد توزيع الاوراق والادوار من جديد. أما كيف ستكون النهاية وهل ستصل السفينة في الاخير إلى بر الامان؟ وكم سيستغرق ذلك من وقت وجهد؟ فذلك ما لا يعلمه لا الحريصون على النجاح ولا الساعون إلى الفشل. نزار بولحية