لم يعد الفقر العامل الرئيسي وراء ثورات الشعوب على الأقلّ في موجتها الراهنة التي بدأت في العقد الماضي في صربيا وأوكرانيا وجورجيا وقرقيزيا، وامتدت الآن إلى دول عربيَّة. فلم تكن العوامل الاجتماعيَّة- الاقتصاديَّة هي المحرك الوحيد للثورة التونسيَّة، وظهر هذا بوضوح أكثر في الثورة المصريَّة التي بدأت بعد 11 يومًا على نجاح ثورة الياسمين في إطاحة بن علي، وفي الاحتجاجات المتنوعة الخلفيات والفعاليات في بلاد عربيَّة أخرى. فليست العوامل الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة من فقر وبطالة وتفاوت طبقي حاد هي المحرك الوحيد أو الرئيسي لغضب شعوب عربيَّة نزلت إلى الشارع كما لم تفعل من قبل منذ حصول بلادها على الاستقلال؛ فلم تحدث هذه العوامل الموجودة منذ فترة غير قصيرة ثورة إلا عندما اقترنت بما يمكن أن نسميه الدوافع الثقافيَّة التي تعود إلى تغيير في ثقافة المجتمع، فعندما يحدث تطور في ثقافة كتلة مؤثرة في المجتمع وتتغير نظرتها بالتالي إلى طريقة الحياة أو تتبنى رؤية جديدة لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الإدارة والجمهور وبين فئات المجتمع وشرائحه أيضًا، يزداد الميل إلى تغيير الواقع بما ينسجم مع هذا التطور، وحين يستعصي هذا التغيير وتغلق أبواب الإصلاح الذي يؤدي إليه يزداد الاستياء ويتحول إلى غضب مكتوم يتراكم تحت السطح إلى أن يجد فرصة للانفجار. وهذا هو ما حدث على مدى سنوات طويلة؛ حيث انتشرت تحت سطح الجمود الذي خيَّم على بلاد عربيَّة عدة ثقافة مدنيَّة حديثة تعلي من شأن حرية الإنسان وكرامته وتأبى الظلم والإذلال، وساهمت ثورة الاتصالات التي غيرت وجه الحياة على الأرض في تسريع انتشار هذه الثقافة في بلاد تعودت أجهزة الأمن وهيئات الدولة المرتبطة بها على إساءة معاملة الناس في غياب تقاليد مجتمعيَّة عريقة توجد في بلاد عربيَّة أخرى. وكان الرد على هذه الممارسات بدأ في فضاء "الإنترنت" قبل أن ينتقل إلى أرض الواقع في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا؛ فقد نزل المحتجون إلى الشارع استجابةً لدعوة عبر الإنترنت في هذه الحالات كلها، ولم يكن المبادرون بالدعوة إلى التظاهر والاحتجاج فقراء أو عاطلين يبحثون عن خبز أو عمل بالأساس، ولكنهم وضعوا الخبز أو "العيش" والعدالة الاجتماعيَّة ضمن مطالبهم؛ سعيًا إلى توسيع نطاق المشاركة في الاحتجاجات التي دعوا إليها. ومن أهم القواسم المشتركة بين البلاد التي اندلعت فيها ثورة أو احتجاج حقيقي، وليس مصنوعًا لأهداف طائفيَّة أو مذهبيَّة، أنها شهدت توسعًا في الطبقة الوسطى في مرحلة انتشرت فيها ثقافة الحرية والكرامة الإنسانيَّة على الصعيد العالمي بالتزامن مع استمرار احتكار السلطة وازدياد سطوة أجهزة الأمن التي صارت هي القوة الرئيسيَّة في هذه السلطة، وقد أظهرت دراسة موثقة أصدرها "المعهد العربي للتخطيط" في العالم الماضي توسعًا ملموسًا في الطبقة الوسطى في البلاد التي شملتها هذه الدراسة، ومن بينها ثلاثة نشبت فيها ثورات هي مصر وتونس واليمن، بالإضافة إلى ثلاثة بلاد أخرى "الأردن والجزائر والمغرب" حدثت فيها احتجاجات محدودة بالتزامن مع هذه الثورات، ولكنها لم تتوسَّعْ لأن هذه البلاد شهدت إصلاحاتٍ متفاوتة في السنوات الأخيرة. وتعتبر الطبقة الوسطى أكثر حساسية للتغير الثقافي الذي يعلي من شأن حرية الإنسان وكرامته، مقارنةً بالطبقات الدنيا، وبالرغم من أن معاناتها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة أقل من الطبقات التي تدنوها، فهي أكثر شعورًا بالظلم لأنها المصدر الأول لعائدات بلادها من الضرائب، ولذلك أصبح الشعور بالظلم والإذلال أكثر إنتاجًا للغضب الثوري، مقارنةً بالمعاناة من الفقر. وهذا يفسر كيف أمكن تحويل مقتل الشاب خالد سعيد في مدينة الإسكندرية في مايو 2010 على أيدي رجال أمن اعتقلوه إلى منطلق لحملة إدانة واسعة لجهاز الشرطة والنظام السياسي برمته، وجذبت صفحة "كلنا خالد سعيد" على الفيس بوك مئات الآلاف من المصريين الذين نزل بعضهم إلى الشارع في 25 يناير مصرين على استرداد حقوقهم، ولم تلبث أعداد متزايدة من الناس أن انضمَّت إليهم على مدى 18 يومًا حتى تنحَّى مبارك عن الرئاسة وكان تراكم التعبير الإلكتروني عن الغضب مساعدًا على سرعة انتقاله إلى الأرض حين أخذ شباب من الطبقة الوسطى، وليس من الفئات الدنيا زمام المبادرة الثوريَّة. وبالرغم من أن ازدياد معدلات البطالة في هاتين الحالتين كان له أثر واضح في توسع نطاق الاحتجاجات؛ فقد أظهرت استطلاعات أجريت في مصر أن معظم الشبان العاطلين نظروا إلى بطالتهم باعتبارها إهانة لهم في المقام الأول؛ كونها تحطُّ من شأنهم في عائلتهم ومجتمعاتهم الصغيرة. والأرجح أن هذا هو أيضًا شعور الكثير من العاطلين الذين شاركوا في الاحتجاجات في بلاد أخرى، على نحو يطرح افتراضًا جديرًا بأن يحظى بعناية خاصة في دراسة الثورات والاحتجاجات العربيَّة، وهو أن الإنسان بات يثور لكرامته أكثر مما ينتفض بسبب فقره. فهذه ثورات ديمقراطيَّة وليست اجتماعيَّة، بالرغم من أنها تفتح الباب أمام فيض من المطالب الفئويَّة ذات الطابع الاجتماعي.