لن أتكلّم في الإنجازات ولا في الإخفاقات , طالما هجر قسم كبير من التونسيين العمل , واستهتر بقداسة الشغل , وطالما يتّخد من الدولة عدوّا , وطالما يطالب بالشغل في مرافق الدولة فقط , ويفضّل الجلوس في المقاهي والحانات والخطف والنهب والسرقة والقبْض من الدولة مقابلَ بطالة تسكن في العقول قبل الواقع لن أتكلّم عن كل هذا ولا حتى من باب كان بالإمكان أحسن ممّا كان . فبعد سنة أولى شرعية حصلت قناعة في نفسي بأنه لو جلبنا أكبر حكومة ديمقراطية من التكنوقراط أو السياسيين فلن تنجز أكثر مما فعلت الحكومة المنبثقة عن انتخابات التأسيسي رغم قلّة خبرتها في تسيير الشأن العام وتباطؤها في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب . فالحقل الاقتصادي تحكمه مبادئ التخطيط الدقيق ومجالات التمويل الرشيد وطرق التنفيد المحكم في محيط عام تتداخل مكوّناته وتكتمل , وتقوم فيه الدولة بدور المنسّق والمنشّط ليُترجم الفعل التنموي إثر ذلك إلى واقع وينعم الجميع بخيراته وفي كل هذا لم نخرج عن قاعدة مرّت بها كل الشعوب التي عرفت الثورات وتقول : لا معنى لأي ثورة طالما لم تلْمس العقول وغيّرت الموروث من العادات والعقائد وإذا كان أصحاب الفكر والفعل الثقافي الخلاّق الدّافع إلى الأمام متغيّبين بارزين في صنع الواقع الثوري فالثابت أن السياسي سيستأثر بهذا الحوْز الفكري ليطوّعه على مقاسه في شكل وصفات سياسية حزبية تزيد من ضبابية الرؤيا وانسداد الآفاق لدى الجمهور المتلقّي وهو ما نعيش على وقْعه هذه الأيام بكل أسف وسأُحيلكم بالمناسبة على جملة من المواقف والتصريحات التي تبشّر في معظمها بدكتاتورية الفكر الواحد وتهيء “المستهلك” للمادّة السياسية إلى عدم قبول الآخر وترسّخ في وجدانه مقولة : كل الطرق تؤدّي إلى روما , والغاية تبرّر الوسيلة , وأنا ومن بعدي الطوفان , والكذب في المصالح جائز الشخصية السياسية الأولى الفاعلة في المشهد السياسي التونسي اليوم هي بلا شك شخصية زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي , تأمّلوا جيّدا هذه التصريحات التي أطلقها على مدار سنة : * التأسيسي سنة واحدة , وعدْنا وعاهدْنا شعبنا على ذلك ووقّعنا على وثيقة في الأمر . تصريح الغنوشي في برنامج حواري في قناة حنّبعل بعد أيام من انتخابات التأسيسي * السلفيون هم من أبناء الثورة وصانعيها , وإنْ كان ثمّة من خطر يهدّد الثورة فهو نداء تونس * بعد مقتل رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة بتطاوين المرحوم لطفي نقض قال الغنوشي : مجالس حماية الثورة يستمدّون شرعيتهم من الميدان وهم جزء من المجتمع المدني ولكن في نطاق القانون . إن هؤلاء هم حرّاس وحماة الثورة ووجودهم جاء قبل مجيئ هؤلاء السياسيين الذين يطالبون بحلّهم * قال الغنوشي أيضا : الحركة لم ترفض دعوة الاتحاد العام التونسي للشغل في مبادرته حول الحوار الوطني وإنّما الحركة أرادت المشاركة في هذا الحوار ولكنّ الاتحاد رفض (موزاييك آف آم 22 أكتوبر 2012) * إذا اقتضى الأمر حلّ حركة النهضة فإنّها ستُحلّ (نور الدين البحيري وزير العدل في تصريح لجريدة المغرب يوم 23 أكتوبر 2012) * نحن نحكم وسنحكم هذه البلاد لأن الشعب التونسي موال للنهضة ولا يوجد بديل عنها في الساحة ( تصريح الغنوشي في اجتماع عام مع قواعد النهضة بفوشانة يوم الأحد 21 أكتوبر2012 ) قال محمود درويش : أيها المارّون بين الكلمات العابرة احملوا أسماءكم وانصرفوا واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة وخذوا ما شئتم من صور كي تعرفوا أنّكم لن تعرفوا كيف يَبْني حجرٌ من أرضنا سقف السماء …