لم يعد هناك اليوم في تونس توازن سياسيّ مثل الذّي حقّقه حزب نداء تونس في اواخر 2014, لكن هذا الحزب تفجّر وأصبح ظلاّ لنفسه. من المطروح اذن اليوم خلق توازن سياسيّ مع حركة النّهضة الّتي من المتوقّع ان تكتسح كلّ الانتخابات القادمة اذا لم يحدث ما طالبتُ به في اذاعة الدّيوان يوم 3 مارس الماضي, و هو بعث قطب كبير للشغّالين حول الاتّحاد العام التّونسي للشّغل و اليسار. انّ الوضع اليوم في تونس و في محيطها الاقليمي و الدّولي ليس في صالح الحركات الاسلاميّة الاصوليّة, و هذا عامل ييسّر نسبيا بعث القطب المقترح. يستطيع اتّحاد الشّغل مواصلة دوره بصفته نقابة, لكن يتحوّل في نفس الوقت الى حزب شغّالين بمعيّة اليسار التّونسي ممثّلا في الجبهة الشّعبيّة و في اليساريّين المستقلّين. انّ هذا ممكن, و قد قامت به النقابات البريطانيّة في مطلع القرن 20 و قامت به نقابة الهستد روت في اسرائيل بعد 1948. لقد ظهرت الدّعوة الى تكوين حزب عمّالي زمن الزّعيم النّقابي الحبيب عاشور, لكن الظّروف لم تكن سانحة آنذاك نظرا الى هيمنة الحزب الواحد و نظرا الى انّ الاتّحاد كان الخيمة الّتي يحتمي داخلها كلّ المعارضين لسياسة بورقيبة, و بعث حزب عمّاليّ آنذاك من شانه اضعاف الاتّحاد نظرا الى تعدّد الاتّجاهات السّياسيّة داخله. امّا اليوم, فقد زلزلت الارض زلزالها في العالم بسبب النّيوليبيراليّة المتوحّشة و ثورتي "الرّوبوتات" و "المعلوماتيّة", و تصدّعت كلّ قيم الحداثة الكلاسيكيّة و كلّ الارتودكسيّات مثل الحزب السّياسي و النّقابة و الطّبقة الاجتماعيّة و المثقّف… و بدأت تبرز قيم جديدة ما بعد حداثيّة. لقد اصبح القول الفصل اليوم للتّكتّلات السّياسيّة الكبرى و لأشكال من التّنظّم السّياسي و النّقابي تعتبر هرطقات في الماضي القريب, لكنّها اليوم فاعلة جدّا في الواقع (ظاهرة صعود دونالد ترامب في الولايات المتّحدة على سبيل المثال). فما الذي يمنع في تونس اليوم القيادة النقابية من مواصلة تسييرها الاتحاد و في نفس الوقت تكون هذه القيادة او جزء منها على رأس حزب شغّالين بالاشتراك مع قياديّين من اليسار و من المستقلّين الحداثيّين. انّها فرصة مؤاتية للاتحاد حتّى يخرج من المحبس الّذي حصرته داخله طبقة رجال الاعمال و هو المطالبة الدّوريّة بالزّيادة في الاجور ثمّ الحصول بشقّ الانفس على بعض الفتات الّذي سرعان ما يلتهمه غول التّضخّم , و حتّى يخرج الاتّحاد من مزلق الانجرار الى ممارسات تفقده جانبا كبيرا من مصداقيّته مثل المطالبة بتنحية هذا الوزير أو ذاك ! لقد مارس الاتحاد السّياسة, لكن بوجه غير مكشوف, و انجز اشياء عظيمة مثل قيادة الحوار الوطني الّذي افضي الى تخلّي حركة النّهضة عن السّلطة, لكن لم تشكره الحكومة أبسط شكر و لم تطبّق حتّى اتّفاقيّات قديمة وقّعتها هذه الحكومة لصالح الاتحاد, و لو كان الاتحاد حزبا, لكان الأمر غير ذلك. انّ اليسار الّذي اصبح لدى الرّأي العامّ مرادفا لكلمة "لا" و المهدّد في الانتخابات القادمة بان تكون نتائجه ربّما هزيلة, مطالب بالتّفكير جيّدا في الالتحام التنظيمي باتّحاد الشّغل و خلق قوّة سياسية ضاربة في البلاد. و الرّأي عندي انّ البرنامج السّياسي لحزب الشغّالين atypique المرتقب الّذي يضمن له اكثر ما يمكن من المساندين هو : – على المدى القصير : تطبيع الوضع الامني و الاقتصادي – على المدى المتوسّط : ارساء اشتراكيّة ديمقراطيّة في اطار الرّأسماليّة القائمة, مع الحرص على التّقليل اكثر ما يمكن من تبعيّة الاقتصاد التّونسي للخارج