لا شك أن الدين عند الله الإسلام وأن محمدا صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء بُعث برسالة واحدة إلى العالمين فكان وحيا واحدا وان اختلفت القراءات، وكانت سنّة فيّاضة بمكارم الأخلاق رُويت ودُونت في عديد المراجع والكتب والتفاسير. لقد برع علماء الإسلام الأوائل في التأصيل والعنعنة و ترتيب الأحاديث حفظا لهذه السنّة، فبرزت الأحاديث المتواترة والمتفق عليها والحسن و الضعيف وهي تصنيفات لا يفهمها إلا أهل الرّأي و الاختصاص في العلم الشرعي والحديث النبوي. ثم برزت المدارس والمذاهب وفقا لهذه التصنيفات وتسارع الناس في الانضمام إليها دون تعصّب أو تشدّد فرُفع للإسلام علم واحد و سطّر منهج موحد، واحترم الشافعي الحنبلي و المالكي الظاهري بعد أن علموا أن الاختلاف رحمة للعالمين وهي توسعة في العبادات والمعاملات تخلق حيزا من الإنتاج والاجتهاد وتؤدي إلى حسن الاقتداء بالرسول الأكرم، صلى الله عليه وسلم، عالي المقام و شفيع الأمة. كان منهاج السلف الصالح من المسلمين مفعما بالغايات التي تحرس حمى الإسلام فجميعهم سد منيع ضد الأعداء والمشككين. توالت انتصارات الإسلام ودخل فيه أفواجا من الأقوام بعد أن أيقنوا بمشروعيته وصلاح دساتيره لكل زمان ومكان. لقد شهد التاريخ القديم والمعاصر بمدنيّة الدولة الإسلامية وازدهار الحضارة فيها واندفاعها نحو البناء و العيش الكريم. فلم يشتهر ابن سينا والخوارزمي وابن حزم وابن رشد وابن الهيثم والرازي والبيروني وغيرهم بقتالهم “للكفّار” والمارقين عن الدين الذين كان عددهم لا يستهان به في تلك العصور، بل انصرفوا لصنع الحضارة وتطوير العلوم خدمة للإنسان عامة، فتدبروا في الكون كما أمرهم الله وأفلحوا بشهادة ما كتبه التاريخ عنهم. لكن هذا التطور الفكري والمعرفي لم يُلغ تجهيز الجيوش القوية المقاتلة في سبيل إعلاء كلمة الدين والذود على حرمة المسلم أينما كان والانتصار للضعيف ولو كان من أهل الذمة. فعلت أسماء عظيمة كخالد بن الوليد وقتيبة بن مسلم والظاهر بيبرس وقطز وغيرهم من الأعلام الشجعان الذين كانوا يقفون وقفة المتعلّم الخاضع لمعلّمه كلما كلّمهم الرّاسخون في العلم وأهل الدّين. تلك سيرة السلف الصالح وما تبعه من تابعين وتابعيهم، سيرة عطرة جمعت بين العلم والنّهل منه والجهاد و حسن الاستعداد له. لكنّ المتابع للأحداث اليومية في بلادنا وغيرها من البلدان العربية وبعض الدول الإسلامية يلاحظ ارتفاع وتيرة العنف و التعصب لظاهرة “السلفية” ويستهجنها في قميص هندي و قبعة باكستانية ولحية أطلقت بطريقة معينة فاتخذت عديد الأشكال والألوان دون أن ترقى إلى جمال المظهر. فتستأثر فئة معيّنة بإتباع السلف الصالح وينسب الباقون إلى الكفر والمجون والمعصية. ويظهر في الجهة المقابلة أطراف تعددت ألوانهم الفكرية من اليمين إلى اليسار ومن الإيمان إلى الإلحاد، فاجتمعت على معاداة الفئة الأولى و ربما الإسلام برمته فاختارت قيم التسامح و”الإيمان في القلب” و “لا إكراه في الدين” والحريات الشخصية كشعارات تناور بها وتستعملها في محلّها وغير محلّها علّها تظفر بالتقدير والاستحسان عند العامة. ولكنّ المساكين يقعون في فخاخ الرّدة والزّندقة كلما تحدّثوا عن الإسلام وسماحته ورحمته فيحرّمون الحلال ويحلّون الحرام ويغيّرون الثّوابت ويثبتون المتغيرات. فهم يتعاملون مع النّص القرآني حسب الهوى ويستنبطون “العلل” من السنة دون تعمّق في المعرفة الدينية. فأضحت “الفتاوى” تصدر كل يوم وتصدر المواقف المضادّة كل ساعة و يتكلم القاصي والداني في الدين و يدلي بدلوه من غير علم و لا إدراك لمسائل فقهية خالها العديد من العارفين من المعلوم بالضرورة. كم نشمئز من ذاك السؤال الذي اعتاد المتفرج سماعه في كل استضافة لشخصية ما : ما هو رأيك في … ؟ اللحية، الحجاب، الشريعة، السلفية، …ولسائل أن يسأل، متى كان المسلم في كل العصور والأزمان والمذاهب والطرائق يدلي برأيه في أمر من أمور الدين دون علم و تكوين بل و تخصص أيضا ؟ . فيذكرنا البعض بسخافات الماضي المقيت التي أوقعنا في هذا التصحر الديني الرهيب.و لأضرب مثلا في هذا القبيل بسؤال المذيع عن رأي ضيفته في اللحية و التدين وكان الاستغراب شديدا من الإجابة لمّا ذكرتنا الضيفة بتدين عائلتها وصلاة أمها رحمها الله. فهل يطرق الدين وتطرح المسائل بهذه المنهجية .وددت ان يسأل المذيع يومها ضيفته عن رأيها في نظرية النسبية وقوانين الجاذبية لنيوتن ومبرهنات مكسوال و ….؟ إنني شبه واثق بأنهم لن ينطقوا بحرف واحد و سيعلنون بسرعة أنهم ليسوا أهل اختصاص.ذاك هو الإسلام “لايت” حسب المقاس التونسي قد يلبس ولكنه لا يستر ول يقي حرّ نار جهنم. إنّ تونس متجذرة في تاريخها العربي الإسلامي و لن تغير الأيام هذا الأمر بحفنة “نخبة” هجرت اللغة العربية وموطأ الإمام مالك ومقدمة ابن خلدون والتحرير والتنوير لابن عاشور ومتن ابن عاشر و غيرها من المراجع المعتمدة. لا يمكن لهذه النخبة المثقفة أن تنتج لتونس دينا خاصا يجمع بين انتقاءاتهم من الدين الإسلامي و القيم العالمية كما يدّعون. ولا يمكن أيضا للمتفيهقين “الجهاديين” أن يستأثروا بإرث السلف فينفردوا بعمر وعلي و الزبير وطلحة وابن تيمية و غيرهم من عظماء الإسلام. وليعلموا جيدا أن نجاح حروبهم وانتصاراتهم تنحصر جغرافيا على تخوم العالم العربي. هناك، يصورون الدين للأقوام المسلمة في الصومال وافغانستان ومالي وتركمانستان وكشمير وغيرها من المناطق، في صور قاتمة وباهتة فتنبري تلك الأقوام مطيعة لهم لجهلهم بلغة العرب. لقد حاول “الجهاديون” قبل الربيع العربي غزو العالم العربي فوجدوه عصيّا فنأوا إلى الصحاري والمرتفعات معلنين خيبة الأمل والمسعى. ولأختم بأن العالم العربي بات أكثر حرصا على دينه وقيمه بعد الثورات دون التعويل على الفكر “الجهادي” ودلائل هذا الأمر تتضح جليا في عديد المجريات والأحداث. لقد أصبحت متابعة البرامج الإخبارية والحوارية تجلي العديد من القناعات والحقائق الدينية التي دفنت في التراب وخال مناصرو الإسلام “لايت” أنها لن تعود للظهور أبدا. ففرح القوم بدينهم وزادهم طمأنينة واعتزازا بثورتهم ثم شمّروا على سواعد البناء والكسب الحلال عسى أن يبارك الله أمرهم فيجازون في الدنيا والآخرة.