ليست كلمة «سلفية» غير تعبير عن تيار اسلامي يضم تحت سقفه حركات اسلامية وأسماء لمنظرين اسلاميين يدعون الى العودة الى «السلف الصالح» وهي تميمة تطلق عادة على أصحاب الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم. والتيار السلفي مثلما تشير إليه أدبياته يرفض الأخذ بما جاءت به كتب أصحاب المذاهب الفقهية الاجتهادية لمالك بن أنس (المالكية) والشافعي (الشافعية) وأبي حنيفة النعمان (الحنفية) وأحمد بن حنبل (الحنبلية) وهي المذاهب التي أسّست لاجتهادات فقهية لتطبيق تعاليم الاسلام.
وعلى هذا الأساس اعتبرت السلفية تيارا يدعو الى مقاومة التعصّب لأحد المذاهب الفقهية الأربعة والتمسّك بأخذ الأحكام الشرعية من النص القرآني والأحاديث النبويّة التي ثبتت صحتها بالرواية المنقولة عن النبي بسند «السلف الصالح».
زمن الولادة وقد وجد التيار السلفي منذ نشأته في العصر العباسي (1258 ميلادي)، معارضة شديدة بسبب اتهامه لأتباع المذاهب الفقهية الأربعة بالتعصّب المذهبي أي التعصب حسب رأي السلفية لإمام من الأئمة الأربعة المنشئين للمذاهب الفقهية في كل أمر من أمور الدين واعتبار ما عداه مخالفا للشريعة الاسلامية.
وتواصل تيار السلفية عبر أجيال من العلماء وصولا الى كبير علماء السلفية وملهمهم وهو أحمد ابن تيميّة الملقب من قبل أتباعه السلفيين «بشيخ الاسلام» الذي عرف بآرائه المنافية للمذاهب الفقهية مثل نهيه عن زيارة القبور فحُوكم في عهد الملك الظاهر بيبرس في مصر والشام في القرن الثامن هجري وسُجن بسبب رفضه للمذاهب وأفتى بالعودة الى «نهج السلف الصالح» والتمسك بالقرآن والسنّة بأحاديثها الصحيحة والابتعاد عن البدع واتباع سنة النبي محمد في شكل الحياة اليومية مثل الملابس والحجاب واللحية وغيرها.
الانتشار وانتشرت السلفية في العديد من البلدان العربية والاسلامية بعد وفاة أحمد بن تيميّة في سجن قلعة دمشق عن سن تناهز 67 عاما بسبب اتهامه بهدم الفقه الاسلامي المذهبي الذي بناه فقهاء الاسلام الأربعة واصراره على ضرورة الضرب بهذه المذاهب عرض الحائط والعودة مباشرة الى القرآن والسنّة واستنباط الأحكام منهما وتلك وظيفة المجتهدين والعلماء.
وقد كان زمن الدولة العثمانية موسوما بالتعصب المذهبي وقيام الخلافة الاسلامية على يد السلطان العثماني سليم بعد أن سلمه شريف مكة مفاتيح «الحرمين الشريفين»، اعترافا بخضوع الأراضي الاسلامية للعثمانيين وتنازل آخر الخلفاء العباسيين محمد الثالث المتوكل على اللّه، عن عرش الخلافة فأصبح كل سلطان عثماني بعد ذلك خليفة للمسلمين ويحمل لقب «أمير المؤمنين» وخليفة رسول ربّ العالمين.
أعلام السلفية إلاّ أنّ العالم الاسلامي أنتج مع ذلك أسماء علماء مجدّدين في الاسلام انخرطوا في حركة تحرير الشعوب العربية والاسلامية من خطورة التعصّب المذهبي، لكن بعضهم أسّس لمنهج أتباع خطى ما كانوا يطلقون عليه «السلف الصالح» في العقائد والممارسات الدينية.
أما في مستوى الأحكام الفقهية المنظمة لحياة الناس في ملبسهم ومأكلهم ومعاملاتهم فقد دعوا الى عملية تجديد فقهي يتناسب مع مقتضيات العصر وإعادة إحياء البحوث الشرعية ومقاصد الشريعة وأطلق على هؤلاء تسمية «السلفية الاجتهادية» وأبرزهم رشيد رضا ومحمد عبده وعلال الفاسي ومحمد الغزالي. إلاّ أنّ موجة السلفية الاجتهادية التي لم تُبد موقف الرفض القطعي مع الاجتهاد في التعاطي مع «الاجتهاد الفقهي»، سرعان ما تمّ تجاوزها أو نسفها مع ظهور تيار سلفي جديد يرفض كل اجتهاد مع القرآن والسنّة أو قياس ويؤسس لالتزام نصّي بنهج «السلف» ورفض الاجتهادات الفقهية وهم أتباع محمد ابن عبد الوهاب أو ما يعرفون بأتباع «الحركة الوهابية» ويُطلق عليهم «السلفية النصّية» التي تقدم النقل على العقل أي الالتزام بنقل النص القرآني والحديث النبوي حرفيا دون اجتهاد فيه ورفض التأويل الكلامي والاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث..
ظهور الوهابية ومعلوم أن الحركة الوهايبية التي سُميت باسم مؤسسها محمد ابن عبد الوهاب المولود سنة 1703 في بلدة العيبنة القريبة من مدينة الرياض السعودية، تقوم على التشدّد في الدعوة والعنف و«تنقية الاسلام ممّا شابه من آراء دخيلة عليه دون أخذ الناس باللّين».
وقد ساند الدعوة الوهابية آنذاك الأمير محمد بن سعود وتحالف الرجلان على الدعوة الى «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وأصبحت مدينة الدرعية السعودية مركزا للدعوة الجديدة بل غدت العاصمة الدينية والسياسية للدعوة، وفي سنوات قلائل انتشرت الدعوة الوهابية في أرجاء منطقة نجد في الجزيرة العربية وشارك آل سعود في هذه الدعوة حتى تحوّلت الى قوة روحيّة وسياسيّة.
ولم تثر الدعوة الوهايبية وهي في مهدها الأول انتباه الأتراك العثمانيين باعتبارها «حركة تجديد واحياء للاسلام»، لكنها أثارت انتباههم حين بدت تتسع كحركة دينية تساندها قوة سياسية ممثلة في آل سعود وصولا الى تأسيس المملكة السعودية التي تعيش تحت راية الحركة الوهابية السلفية النصّية.
وجهات السلفية مع حلول القرن العشرين تشعبت الحركة السلفية وتنوّعت ألوانها فظهرت تيارات سلفية تتميز بشيء من المرونة مقارنة بالسلفية الوهابية المتشدّدة وتقدم الاسلام في صورة قابلة للتطبيق في الحياة العامة وتجمع بين التمسّك بالثوابت والأصول المتمثلة في النصّ القرآني والأحاديث النبوية مع اظهار شيء من الانفتاح النسبي في التعامل مع المتغيّرات الاجتماعية وكان أبرز أعلامها جمال الدين الأفغاني أحد روّاد عصر النهضة العربية أصيل مدينة «أسعد آباد» الأفغانية الذي كان يدعو الى اتباع الأسلوب الثوري في مقاومة الاستعمار الأوروبي في الدول الاسلامية اضافة الى محمد عبده المحسوب على تيار التجديد الاسلامي والمعروف بنقده اللاذع لشيوخ الأزهر وفتاواه المرنة واستخدامه للوسائل السلمية في تكوين أجيال جديدة لنشر التربية الاسلامية.
لكن الحركة السلفية عرفت منحى آخر نحو التشدّد واستخدام السلاح في الثورات وكان من منظري هذا المنحى الأمير عبد القادر في الجزائر وعبد الكريم الخطابي في المغرب ومع ذلك بقيت هذه الحركة حبيسة محليّتها وبلدانها ولم تتجاوز آفاقا أخرى، فانتهت سريعا.
فكرة الجهاد في المقابل تنامت السلفية الوهابية بشكل متسارع ملتزمة بطابعها النصي والالتزام بنهج «السلف الصالح» كنموذج للاتباع وتحولت الى جماعات سرية وأخرى علنية تتوخى أسلوب التكفير لكل من خالفها العقيدة واستباحة قتله واتهامه بالردّة عن الدين الاسلامي.
وتطورت السلفية النصيّة الوهابية الى حركة جهادية ساهمت في نموّها وانتشارها عوامل سياسية كثيرة منها الصراع العربي الاسرائيلي واحتلال اسرائيل للأراضي الفلسطينية وهيمنة الولاياتالمتحدةالأمريكية على أجزاء كثيرة من العالم العربي والاسلامي والاعتقاد في «عمالة الحكومات العربية لأمريكا وللدول الأوروبية» وهو ما حدا بها الى اعتناق «الفكر الجهادي» وتكفير الأنظمة العربية.
سلفية جهادية ويقول المفكر محمد عابد الجابري أن «صدمة الحداثة» التي ارتبطت مع حملة نابليون بونابرط الفرنسية على مصر سنة 1798 ساهمت في تحديث السلفية الوهابية، لكن ليس في المملكة العربية السعودية التي لم تتعرض لهذه الصدمة المرافقة للاستعمار الفرنسي، بل في مصر وكان ذلك مع محمد عبده مؤسس السلفية النهضوية الاصلاحية وجمال الدين الأفغاني الذي كان يستنهض الشعوب لمقاومة «الغزو الاستعماري».
ويخلص الجابري الى الاستنتاج بأن «الاسلام السياسي» المعاصر الذي يُنسب إليه ما يُعرف اليوم «بالارهاب» ليس امتدادا للسلفية النهضوية التي حملت مشعل «الاصلاح الديني» ورفعت راية مقاومة الاستعمار، فقد كانت «سلفية» الأفغاني ومحمد عبده «النهضوية الاصلاحية» نقلة نوعية قياسا مع سلفية محمد بن عبد الوهاب.
أما «السلفية الجهادية» التي تدعو الى التكفير والجهاد المسلّح فهي نقلة مغايرة ترتبط بالوهابية، لكنها تتجاوزها «بمحاربتها» لما تسمّيه «الأمركة» والعولمة والامبريالية الأمريكية.
وقد أفتى كبار شيوخ «السلفية» بجواز الانتساب الى «السلف» لمن اتبع منهجهم والتزام بمبادئ «أهل السنة والجماعة» ورفض التأويل على اعتبار أنّ «النص لا يخالف المنطق العقلي وإن حصل اختلاف فيقدم النص على العقل مع الأخذ بالأحاديث إن صحّت عن الرسول وإثبات صفات اللّه التي وردت في القرآن والسنة وتجنب تأويلها».
القاعدة على الخط وتشعبت الحركات السلفية الى أجنحة كثيرة منها المعتدل ومنها المسلح، فظهرت في بداية التسعينات عقب الانتخابات التشريعية في الجزائر عام 1991 «الجماعة السلفية للدعوة والقتال»، التي تحوّلت بعد ذلك الى «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي»، وظهور هذه الحركة جاء على اثر عدم اعتراف المؤسسة العسكرية في الجزائر بفوز الجبهة الاسلامية للانقاذ بما فتح الباب أمام تشكل الجماعات والتنظيمات المسلحة في الجزائر في اطار ما عُرف «بالجيش الاسلامي للانقاذ»، التابع «للجبهة الاسلامية للانقاذ F.I.S».
ودخلت الجزائر بسبب ذلك في بركة من الدماء، فقد نفذت الجماعة الاسلامية المسلحة أعمال عنف ضدّ المدنيين العزل ولم تستثن المثقفين والصحافيين وحتى أئمة المساجد.
سلفيو تونس وظهرت في تونس، كما في مصر وموريتانيا وسوريا واليمن والأردن وباكستان وأفغانستان حركات سلفية، حركة سلفية خفيّة لم يسمع لها صوت زمن نظام الرئيس المخلوع بن علي، لكنها أطلّت من جديد وبقوة بعد الثورة وظهر لها شيوخ ودعاة يدعون الى «رجوع الأمة لمجدها»، أمثال أبوجهاد وكمال بن محمد المرزوقي وبشير بن حسن وأبو عبد اللّه المظفّر وأبو عياض وغيرهم ممّى انخرطوا في حركة دعوة جماعية لاحياء «السلفية» من جديد.
ورغم ندرة المصادر وشحّها حول تاريخ الحركة السلفية في تونس، فقد أظهرت بعض الدراسات التي أعدها باحثون تونسيون أن صعود التيار السلفي كان متوقعا في تونس، ذلك أن خطّ صعوده هذا لم يتوقف حتى في أكثر الهجمات الأمنية شراسة عليهم بعد أحداث سليمان أساسا خلال سنتي 2006 و2007.
وتشير بعض الاحصائيات لدى الجمعيات الحقوقية التونسية أن عدد السلفيين آنذاك يقدّر بحوالي 6 آلاف معتقل وربما كان العدد أوفر من ذلك بكثير. وقد كان المناخ مواتيا لبروز التيار السلفي من جديد بعد الثورة التونسية منه ما يحدث على المستوى العالمي من هدوء بعض جبهات القتال وعودة العديد من رموز التيار السلفي الى تونس.
ويقول الباحث الاجتماعي المتخصّص في علم الاجتماع السياسي مهدي مبروك أن قمع حركة «النهضة» في عهد الرئيس المخلوع كان من نتائجه ظهور تيار لا يؤمن بمنهج العمل السياسي المدني الذي سارت عليه حركة «النهضة». مدافعون عن السلفية...
ومنتقدون لها وقد تجنّد الكاتب التونسي ياسين بن علي للدفاع عن السلفيين في تونس فأورد في مقال نشره مؤخرا ضرورة عدم اساءة فهم التيار السلفي ونعته بالتطرف لأن آراءهم وأفكارهم تقوم على الكتاب والسنّة «فلا يتكلم دعاة السلفية إلاّ بما قال اللّه وقال رسوله ولا يدعون إلاّ الى تحكيم شرع اللّه ولا يتبنّون مشروع الديمقراطية الغربي ولا ينكرون المعلوم من الدين بالضرورة ولا يحبذون المجمع عليه بين الأمة الاسلامية ولا يخلطون عقائدهم بفلسفة اليونان والهند والغرب ولا يلتزمون في أعمالهم إلاّ بالحكم الشرعي وفق فهمهم».
لكن الدكتور محمد عابد الجابري انتقد الحركة السلفية بقوله ان الاسلام ليس مجرّد «سيرة سلف» مضى وانقضى، بل هو صالح لكل زمان ومكان غير أنّ تأكيد هذا بالقول شيء وترجمته الى الواقع شيء آخر، فالمسألة ليست مسألة ما إذا كان الاسلام صالحا لكل زمان ومكان، فهذا يؤمن به كل مسلم، ولكن المسألة المطروحة هي ما إذا كان المسلمون اليوم صالحين لزمانهم، أي قادرين على أن يعيشوا عصرهم على أن يدشّنوا سيرة جديدة تكمل «سيرة السلف» القديمة وتجعل منها واقعا حيّا صالحا لأن تستلهمه الأجيال المقبلة في بناء سيرتها الخاصة.
وقال الجابري أن التجربة التاريخية للأمة هي التي يجب تحيينها بتدشين فصل جديد منها يمكّنها من الدخول في العصر الحاضر... هذا العصر الذي يصرّ كل شيء فيه على أنه عصر «الخلف» وليس عصر «السلف».