في حارة من حاراتنا الشعبية ، أعرض بعض شبابنا عن المقاهي التقليدية ، و إلتفّوا حول فانوس البلديّة ، و هو عندهم من أكثر المواقع إستراتيجيّة ، هذا الفانوس له قدرات سحريّة ،قد يشتعل نهارا و يمتنع إبتداء من العشيّة ، و قد يظلّ مضربا عن الإنارة لفترة زمنيّة ، بعد أن عالجه أحد الصبية بحجارة إسمنتيّة و بإيعاز من شباب " المدنيّة " ، و بعدها لا لوم عليك إن لعنت صباحا مساء تهاون البلديّة . . . حول الفانوس و محيطه تنتصب الجماعة للمراقبة و المعاينة والمتابعة الحينيّة ، لكلّ ما يطرأ في النهج و ما جاوره من أحداث يوميّة ، قرب الفانوس إنتصبت محطّة الحافلة العموميّة ، و إذا مرّت إمرأة أو صبيّة ، فإنتظر تعاليق " مرزيّة " و ألفاظ سوقيّة ، تحتاج إلى من يجيد كتابة مرثيّة . .. هذه المرّة و على غير العادة مرّت كلّ من " سعيدة " و " زكيّة " ،في إتجاه المحطّة العموميّة ، و لم ينطق أحد من فرسان الحارّة و لو بكلمة هامشيّة . قالت الأولى : ما للشبّان "صامتون " لا تعليق و لا هم يحزنون ، دعوهم بنا قولا يتحرّشون ،و بشبابنا يحتفون ، و على لباسنا و مظهرنا يعلّقون … حين أتعلّل بقضاء شأن في الحارة أو في المدينة ، و أتزيّن أحسن زينة ، و لا أسمع تغريدة شبابيّة ولوهجينة ، أمرض و أشعر بالإحباط و التهميش ، و بخطر إنقراض " التقطيع و الترييش " قالت الثانية : لا داعي للجزع و فقدان الأمل ، فشبابنا لا يعرف معنى الغزل ، كلامهم منفّر و مملّ ، و الوضع يا عزيزتي لا يحتمل ، هذا ينعتنا بالدمار الشامل أو بالقنبلة الذرّية ، و ذاك يشبّهنا بقارورة غاز أو بالبرويطة البوعزيزيّة " ، و آخر لا يرى فينا إلاّ جارية أو سبيّة ، و لا يكفّ عن لعنة مجلّة الأحوال الشخصيّة … الإحتفاء بالجمال عندهم يتمّ بدعاء خلاء دار الأمّ أو بلعنة جدّ الأب أو العمّ ، أنظري يا عزيزتي حلاوة الغزل في المسلسلات المصريّة ، و تأمّلي في تلك الكلمات العذبة و الرومانسيّة ، تأمّلي في غزل المسلسلات التركيّة ، و إنتبهي إلى غزل العيون العسليّة ، و كأنّهم درسوا في أكاديميّة " الجمّوسي " الفنيّة … لا تأسفي على صمتهم فكلماتهم تشيّئ المرأة و تهينها ، تخدش حياءها و لا تزينها ، لقد ضقنا ضرعا بعباراتهم النابية و الإستفزازيّة ، و المخاطبة للغرائز البهيميّة ، كلماتهم جلّها إباحيّة ، تتنكّر لكلّ القيم الأخلاقيّة ، و تنزع عنّا صفاتنا الإنسانيّة … سألت ذات مرّة سائحة أجنبيّة ، قضّت ببلادنا عطلتها الصيفيّة : ما أوّل ما تعلّمت من لهجتنا العاميّة ؟ فأجابت بسرعة برقيّة ،" أنتم لا تحترمون المرأة و لا حتّى الذات الإلهيّة "( في إشارة إلى سبّ الجلالة و كثرة إستعمال الألفاظ السوقيّة ) ، علينا يا صديقتي بمقاومة نابعة من قناعات مبدئيّة ، فلا تبتسمي لمن يقول لك كلمة نابية حتّى و إن كانت مقاصده غزليّة ، إبتسامتك عندهم رسالة تشجيع و تشريع ، و أنا مبدئيّا ضدّ التطبيع و الكلام المقرف و الشنيع ، بعد هذا إنسحبتا من المكان دون توقيع . جرى هذا الحديث بمحطّة الحافلة ، على بعد أمتار من القافلة ، قافلة شباب عمود البلديّة ، و فرسان البطالة الإختياريّة … فجأة حلّ ركب الآنسة " بومة " و هي تتهادى و تستفز أبناء" الحومة "، و هذه لمن لا يعرفها ، معوجّة الساقين ، عريضة الكتفين ، جاحظة العينين ، معكوفة الأذنين ، بالأحمر القاني طلت الشفتين ،و بالمساحيق غطّت الخدّ و الوجنتين ، ببنطلونها شبّاكين ، تمشي و حذاؤها قائم على مسمارين ، تحمل بيدها اليمنى خاتمين ، و باليسرى ساعة يدويّة و حلقتين ، طولها متر و دقيقتين ، و قد زادها قانون التحرّش سنتيمترين ، و لا مثيل لها من لامبدوزا إلى طريق العين … تمتمت و لا أدري أيّ لهجة تحدّثت ، فلا هي عاميّة و لا هي باغيسية ،قد تكون صناعة تركيّة ، كأشفارها الإصطناعيّة و أظافرها المركّبة و المطليّة ، و التي غزت أسواقنا الشعبيّة … و بحركة إستفزازيّة ، دخلت في مجادلة كلاميّة ،مع أحد فرسان فانوس البلدية ، سمعنا من خلالها فصيح العبارات السوقيّة ، و أكثرها قرفا و إبتذاليّة ، فمن يقدر على منازلة " إبن الهبّة " و الآنسة " بومة " منازلة جديّة ، المهمّ أنّ المنافسة إعتباريّة و الفرجة مجانيّة ،، هو يتوعّد و هي بقانون التحرّش تهدّد ، و أنا بين البقاء و المغادرة أتردّد … المعركة يا سادتي حامية الوطيس ، لم تحسم أمرها إلاّ سيّارة البوليس ، حلّ ركبها و فرّ الجميع ، و سمعنا بعدها بمحاولات صلح و تطبيع . بعد زهاء ساعة زمنيّة ، عاد بعضهم إلى المواقع الإستراتيجيّة ، و تحديدا تحت فانوس البلديّة ، و على هامش هذه الأحداث ، تساءل أحدهم :لم لا نطالب بقانون يحمينا من تحرّش الإناث ؟ فكان ما كان من حوار، و لا عندي ما أخفيه من أسرار. قال الأوّل : علينا بتكوين تنسيقيّة ، نقوم بعدها بوقفات إحتجاجيّة ، حينها ستهرع لنا الإذاعات المحليّة و الجهوية و التلفزة الوطنيّة ، و هذه ممارسة ديمقراطيّة ، لكن علينا بتهديدهم باشكال أخرى من النضاليّة . قال الثاني :ما هكذا تكون النضاليّة بمثل هذه المواقف التخاذليّة ، ذات الخلفيات الليبرالية ، والحليفة للإمبريالية و المنبطحة لصناديق النقد الدوليّة ، علينا بحرق العجلات المطّاطيّة و غلق الطرق الحيويّة ،و إذا قطعتم الطريق ، لا يمرّ شيخ أو مريض أو حتّى أخ شقيق ، حينها يأتونا خاضعين و بالحلول مبشّيرين ، يا معشر المهمّشين . قال الثالث : بدل مخاطر قطع الطريق ، لم لا نتّصل بنائبة " الزهيق و النهيق و التبعويق " و هي القادرة على مكافحة الفساد ، بشتم الحكومة و العباد ، لها يا جماعة قدرات خارقة على التدبير، و على " مرمدة " أيّ وزير ، و على الحديث في كلّ شيء إلاّ في ملف التسفير ، لها صور تذكارية مع رموز " القوى الثوريّة "، لقد تحصّلت أخيرا على وسام " قلّة الحياء "من وزارة المالية و شؤون الأثرياء .أمّا الرابع فقد نصح بالإتصال بنائب ماهر و " عمروص "يدافع عن ثروات البلاد بمجاز " الشكارة و القطّوس " و نبّه إلى أنّ تصالح " القطّوس و الفار ينتهي بخراب الدار " و أمّا الخامس فقد تحسّر على أيّام " أتألّم و لا أتكلّم " و بعد أن بارك و تبرّك بربطة عنق سيّده الشيخ ، و عد بفتوى في الغرض لأنّ شبابنا لم يأتوا من المرّيخ . هكذا يا سادتي ، وقع تهميش قضايانا الحارقة و المصيريّة ، و نحن نعيش على وقع أزمات دوريّة ، تهدّد بغياب الشهرّية ، بعد أن تناسلت الأحزاب و خبرنا مسرحياتها البهلوانيّة و المشكلة الأهمّ تكمن في إهتراء قيم الوطنيّة و للحديث بقيّة . .