( إن زيارة الباجي قائد السبسي رئيس الجمهوية التونسية إلى مدينة سوسة، وما رافق هذه "الطلة" من مظاهر التطبيل والتزمير المنافية للحياء الثوري والخادشة للكرامة الوطنية. فإني استسمح القرّاء في استدعاء هذا المقال الذي نشرته منذ 24 سنة، والذي يترجم مثل هذه الظواهر المتحالفة مع الوضاعة والانحدار ) قالت المعلمة: درسنا اليوم يا أطفال في مادة التعبير. من منكم وباختصار يروي لما حادثة عاشها في أحد الأيام؟. قال أحمد: يا سيدتي في يوم من الأيام قيل لنا أنه ذكرى استشهاد أحد الأبطال، وبدل الالتحاق بالمدرسة لصرع الجهل وعدم تضييع الزمان. جاءنا المدير باكرا قبل أن نلتحق بالأقسام، وأمرنا أن نصطفّ بنظام ونتوجّه إلى ساحة الاحتفال.أمرنا أن نصفّق ونهتف بحياة البطل الهمام، الذي لولاه لما كنا في الأقسام، ولولاه لكنا نرعى الأغنام، ولولاه لما كنا ننتمي إلى فصيلة الإنسان، ولولاه لكنا ضمن حظيرة الأغنام، ولولاه لما تمتعنا بجنة الاستقلال. يومها يا سيدتي كنا في قمة السعادة لأننا استرحنا من عناء الدرس والسؤال. وفي الحين توجهنا إلى ساحة الاحتفال نحمل اللافتات والأعلام. وصلنا إلى المكان، فوجدنا جمعا غفيرا من الشيوخ والنساء والكهول والفتيات والشبان، اصطفوا على أرصفة الطريق، يهمزهم بين الحين والحين رجال النظام بالعصيّ وأحيانا أخرى باللكمات، وفي أفضل الأحوال بأرذل الكلام.. الطقس شديد الحرارة "والبقلة")1( تفترس الرؤوس والأجسام، والشوارع تغصّ بالناس والعباد. والشاحنات تنقل الجموع مجانا محشوّين في الخلف، كالتبن كالدجاج كالعجول والأبقار ليتمطط الاحتفال. والريف زحف إلى هناك تحت تهديد أصحاب القرار.. طال الترقب والانتظار…واستمرّت الفرق تضرب الطبل والمزمار، تعزف نشيد الولاء والعرفان، والكل معطل عن الأشغال. فلتذهب للجحيم كل الانجازات ومصالح المؤسسات والإدارات، وليعطل الزمن وتنتحر كل الساعات فمصلحة الوطن فوق كل اعتبار، الهم الوحيد هنا هو حضور أكبر عدد من النساء والرجال، وفجأة تماوج الرصيف من اليمين إلى اليسار، ومن الجنوب والوسط والشمال، واشتد التصفيق وغطى الهتاف المكان حين طل موكب صانع الاستقلال…مرّ الركب وسط الهتاف والتهليل والغناء والغبار، ومن سيارة سوداء اللون والمحتوى، فخمة الأبواب ساطعة الأضواء امتدت يد ناعمة بيضاء تحيي العباد. وبعدها اختفت القافلة عن الأنظار، وبقي الحمل للذين شاركوا في حفل الاستقبال مرددين "إن حب الوطن من الإيمان"… )1( "البقلة" / كلمة باللهجة التونسية وتعني ضربة شمس