بعد تفكير و تدبير و مشورة و إدّخار ، أجمع أفراد الأسرة على رأي فكان القرار ، أشغال بناء بالمنزل : ترميم جزئيات و تقسيم بيت الأطفال ببناء جدار ، على نحو يصبح فيه لكلّ طفل غرفة مستقلّة علّنا نخفّض من منسوب الشّجار … لتبدأ بعدها رحلة البحث عن أسطى ماهر يتقن عمله بكلّ إقتدار ، و بعد التفتيش و التسويف و الإيهام بالوعد و طول الإنتظار ، أعارني أحد المقاولين أسطى طوله متر و بعض الأشبار ، أفطس الأنف أحول العينين معوجّ الساقين أسنانه قدّت على شاكلة منشار ، وأمّا لسانه فأمضى من مطرقة تدقّ مسمار ، البطن منه بارزة لا يوقف زحفها بنطلون أو أزرار ، يدخّن بشراهة و التدخين عنده بلا أضرار ، يتحدّث عن إنجازاته بكلّ إعتزاز و إفتخار ، لا ترنّ له مطرقة و لا تطاوعه " ملعقة " إلاّ و الشاي يطبخ على النّار ، لكنّ إيقاع عمله متقطّع بطيء إن تابعته يأخذك الدوّار ، و لا يهمّ إن تمطّطت الأشغال فكلّ يوم بمقدار ، لا ينفع معه و مع صانعه شاي أو قهوة أو فطور شهيّ فهذه لا تحسب عندهما بالدينار ، لا ينفكّ هاتفه يرنّ و أجوبته الركيكة لا تعرف الإختصار ، و قد حوّل بيتي إلى مركز نداء و لكنّه يعمل هذه المرّة بالنهار ، إن حادثته أو سألته عن جزئيّة إستغرق في حديث بلا حدود أو قرار ، يحدّثك عن السياسة و عن الرياضة و عن عذاب القبر و عن إنحباس الأمطار ، و لا يفوته أن يذكّرك بغلاء المعيشة و إنهيار الدينار ، و أنا من وراء ذلك أتابع المشهد و حالي كحال ماكينة توشك على الإنفجار ، أمّا إذا حان وقت الصلاة فصاحبنا يصلّي حاضرا و لا بأس فالمسجد بالجوار ، و لا تذهب بعيدا فيوم الجمعة تنتهي الأشغال في حدود منتصف النّهار، أجرته و أجرة صانعه الركيك يا سادة تناهز يوميّا الثمانين دينار … أمّا صانع " الغبينة " فمفتول العضلات قوّته تعادل قوّة عشرة أنفار ، نظراته تشعل كانونا و توقد في الهشيم النار ، و لكنّه متراخ في عمله يحتاج إلى تعديل أوتار ، يتطلّع إلى معرفة كلّ شيء و لا همّ له غير تنسّم الأخبار ، دائم السؤال عمّا يدور حوله و لا يفقه في معاني غضّ الإبصار ، لا يفوته أمر زائر لنا أو قريب أو ما حمل حبل صابون الأجوار ، عين على السطل و أخرى على الهاتف و على شرفة الجيران فعيناه متعدّدة الأدوار ، و إن ساعد الأسطى في أمر تأوّه و تلكّأ و أطلق صفّارة إنذار ، و إن تقوّس بانت عورته دون وجل أو إعتذار ، فالسراويل الهابطة لاتزال عنده موضة الأخيار ، و حين يقترب موعد المغادرة تراه في حالة إستنفار ، لا يعنيه إن ترك الفضاء متّسخا فالتنظيف أصبح من مشمولات صاحب الدّار ، والتراخي و قضم الوقت بعض من مكاسب ثورة الأغوار ، إن شكوته إلى العرف أعلمك أنّه أتى به من باب الإضطرار ، فمهنة البناء عند أمثاله من الشباب مهنة أخطار ، لا معنى فيها للوجاهة بل هي عند بعضهم عنوان إحتقار ، و الأولى الركون بالمقهى و التشكّي من البطالة و من طول الإنتظار … بعد هذا ما العمل إن تغيّب عنك الأسطى ليومين أو ثلاثة دون سابق إشعار ، و ترك موادّ البناء متناثرة و العائلة في وضعية إستنفار ، هذه لقم إسمنت و هذه بقايا آجر و هذه خشبة تقيّأت مسمار ، و هذا الأثاث مكدّس مبعثر و لا تسل عن الغبار ، حينها تبدأ رحلة البحث عنه و عن صانعه الركيك ولا خيار ، و أخيرا عاد البطل محمّلا بترسانة من الأعذار ، و شعاره هذه المرّة " اللّيقة إتجيب " و تردّ للحائط الإعتبار ، فالحائط أحول كعينيه و معوجّ كساقيه و الإعوجاج لا يخفى عن الأنظار ، و لا معنى عنده لكلفة موادّ البناء و لا حديث بعد هذا عن غلاء الأسعار ، أمّا أنا فقد لازمتني الحيرة و أعياني التدبير فأصبحت عصبيّ المزاج غريب الأطوار ، أعصابي تشنّجت نفسيتي تأزّمت أكاد أوشك على الإنهيار ، هذه يا سادتي حالتي و حالة أمثالي في مدينة كانت تنسب على فنّ البناء و فنون المعمار …