ما حدث نهاية الأسبوع الماضي أمام معمل السياب بصفاقس من عنف غير مبرّر تجاه محتجين جاؤوا ليعبّروا عن غضبهم من سياسات التسويف والمماطلة التي تنتهجها الحكومة بخصوص إغلاق المعمل القاتل رغم التزامها بذلك -حتى ولو كانوا تحت يافطة حزب سياسي يتبنّى مطالب أبناء الجهة- لا يمكن قبوله أو السكوت عنه ، لأنه صدر عن جهة يفترض أنها تقف إلى جانب مطالب الجماهير وتعبّر عن أعماقهم ومطامحهم وهواجسهم . والمصيبة أن ينبري رموز هذه الجهة للدفاع عن غزوتهم المُشينة ويبرروا ما حصل بل ويتهمون المتضرّرين بأقذع الأوصاف والنعوت . ما حدث لا يمكن وصفه سوى أنه مظهر من مظاهر سياسات الهوى والغواية التي استحكمت في سلوك ومواقف الكثير من نقابات وهياكل الاتحاد العام التونسي للشغل ، سياسات حوّلت هذا الصرح الكبير في تاريخ تونس الحديث إلى مارد يأتي على الأخضر واليابس ، لا يُخفي تمرّده على الكل أحزابا ومنظمات ومؤسسات وقوانين بل وعلى الدولة التي يرتزق منها عبر اقتطاع معاليم الانخراط به من جيش العاملين بمؤسساتها ، مع أنه يعتبر تاريخيا جزءا لا يتجزأ من الدولة . ما حدث في صفاقس جراء سياسات الهوى التي أتى بها النقابيون ، لا يمكن إلا أن يجرّ البلاد إلاّ إلى أخطار ماحقة لا يمكن مواجهتها ، ولا يمكن وصفها بغير صناعة الضرر لا دفع الضرر التي تنتهجها الكثير من قيادات الاتحاد ، فهي تصنع الأضرار على أعينها وتحيك المخاطر من دون مؤامرات عليها. نحن للأسف إزاء وضع نرى فيه الاتحاد بقياداته العليلة والكليلة المستبدة والفاشلة ، والتي تتهاون في كل شيء ، هي التي تتآمر على نفسها، وتطلق العنان لمغامراتها لدرجة أن من ينظّرون لما سمّي بالفوضى الخلاّقة صاروا يشيرون إلى أن تلك السياسات لا تحمل أي أمر خلاّق، بل هي تحمل فقط فوضى غير خلاقة لا تُحتمل. ماذا يعني الاستنجاد بالباندية وأصحاب العضلات المفتولة والخارجين عن القانون مدفوعي الأجر لضرب وقمع من يُنادون بحقّهم في الحياة في بيئة سليمة نظيفة ؟ ماذا يعني كل ذلك ، إلاّ أن تأتي كل هذه الأمور على هذا النحو، فتخلق أحوال اضطراب وفتنة عظيمة ، حينما تترك العقول الصغيرة تعبث بمقدرات البلاد وحقائق السياسة وفروض التعامل والتدبير. كل هذا لم يعد له من تأثير، إلا أن يرضى صاحب المصلحة في تأبيد التلوث على مدينة المليون ساكن ويؤمّن عليها أتباعا منافقون، وسدنة مطبّلون وبطانة من الأوباش والصعاليك يؤمّنون وينفذون. ما حدث في صفاقس وما يحدث في الكثير من القطاعات على غرار الصحة والعليم على أيدي نقابيين عابثين ، هو تلاعب بمقدرات الأمور والثوابت التي تؤدي إلى الحدود الدنيا في استقرارها ؟ ماذا يعني ذلك سوى أننا نتآمر على أنفسنا ونصنع الضرر لشعبنا ؟ ماذا يعني كل ذلك حينما يتحكم ويحكم المراهقون ويمارسون أساليب البلطجة باسم العمل النقابي ويلوّنونه بمعاني الحزم ؟ أي حزم هذا في تفكيرٍ يختطف أحلام الآلاف والملايين في بيئة سليمة ويزرع بذور الفتنة والتطاحن وربما إلى إراقة الدماء تحت تعلاّت واهية تستبطن حجم الفساد والسمسرة والاسترزاق الذي يحاولون يائسين إخفاءه والتستر عليه . إنها حالة مراهقة عنترية وبلطجة لا يمكن أن أصفها بأنها “نقابية”، فلم يرد علينا ذلك في قاموس العمل النقابي أو في بعض تاريخه ، ولم أعثر على شيء في غياهب ذاكرته يمثّل ذلك الذي يحدث من قرارات طائشة ومواقف بائسة وسياسات خاطئة، واستراتيجيات هي في الحقيقة ليست باستراتيجيات ، تقدم رؤية حالمة وأضغاث أحلام، بل هي أقرب إلى الكوابيس من جراء تخمة أصابت هذا العقل الصغير، فأحدثت جملة من التصرفات، وقرارا بعد قرار لا يمكن وصفه إلا بالخاطئ والخطير. كنت أقول وأدعي أنني أفهم في السياسة وفي أصول العمل النقابي، ولكنني هذه المرة ، ومع كل ما تعلمته وكل ما درسته في ميادينهما ومجالاتهما، لم يعد صالحا لتفسير حالة إدمان العشوائية والمراهقة والبلطجة ، التي تتفنن في استباحة الدماء واختطاف آمال أبناء الشعب، مع قلة عقل منقطع النظير، ومع فائض مراهقة ليس لها نظير ، ومع ممارسة أساليب بلطجة لا يُعرف لها مثيل…