سأتناول اليوم في هذا الجزء من قراءتي لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي الأخيرة، ظاهرة من الظواهر العديدة التي فرضت نفسها على كل محلّل لمجريات الأمور و الأحداث في هذه الانتخابات ، و هي ما أصبحت معروفة لدى التونسيين بالهيئة العليا المستقلّة للانتخابات، هيأة صعد نجمها، و تواتر الحديث عن حرفيّتها، و إتقانها لعملها، الشّيء الذي لم يعهده التّونسيون في السّابق... هيأة شبّهتها بالنّبي في العنوان... هيأة تُدهش من يقف على حقيقة أنّ التونسيين لم يستوردوها من أعلي البحار... و لم يضعوا استراتيجيات عميقة و مستشرفة للمستقبل ليشكّلوها... و لم يأتوا بخبراء زُرق العيون، صفر الشعر، ليكونوا أعضاء فيها... و لم تطلع علينا ليلة القدر فجأة فكان أن طلبنا الله هيأةً بمقياسها، فكانت الإجابة بالسّرعة الإلهية التي هي أهل له تعالى و له فقط. فشبيه النّبيِّ هذا وُلد من رحم عذراء اسمها شعب... له من الثّقافة السّياسية، و من الحسّ المدني، ومن الإلمام الاجتماعي ما يمكّنه من ترشيح مجموعة – لعلّكم ستحسبونني منهم إذا زدتُ في مدحهم، و مدح خصالهم، و مدح حيادهم و حرفيّتهم- فيكلّفهم بتنظيم انتخابات لم نشهد مثيلا لها في الوطن منذ الفينيقيين إلى يوم الناس هذا... و الملفتُ للانتباه هنا هو غياب التّجربة الديّمقرطية لدى شعبنا، إذ أنّه من المعلوم أنّه قد نظّم انتخابات على عدد شعر الرّأس، إلاّ أنّها كلّها، و دون استثناء، سواء في عهد الرئيس بورقيبة، أو في عهد المخلوع، مزوّرةٌ، تفتقر إلى أدنى عناصر الحقّ... بداية من قوانينها التّنظيمية، مرورا بالتّرشّحات أو ما يُسمّى بالتّزكيات في تلك العصور الغابرة، وصولا إلى الاقتراع و إعلان النتائج. فكانت رائحة الفساد تنبعث عند كلّ هذه المراحل، درجة يصبح عندها المتتبّع لانتخابات بلدي آنذاك لا يلحظ هذا الفساد و الظلم بل يراه رأيَ العين يمشي على رجلين. إذ كانت النتيجة التي يفوز بها الحزب الحاكم، و الرئيس الأوحد تتكوّن دوما من أربعة أرقام بينها فاصل، يكون أصغرها ثمانية طبعا، و الثمانية هذه بدورها لم نرها سوى في آ خر الانتخابات... أمّا في عداها فكان أصغر الأرقام تسعة... و لكم أن تتخيّلوا النّتيجة. و نجاح هيئتنا المستقلة العليا للانتخابات في تحقيق هذه النّزاهة و الحياديّة الحرفيّة التي يشهد لها كل المُراقبين، كانت بفضل أهلها... فهم إمّا ذاقوا طعم الظُّلم و الإبعاد، و أو أنّهم أفاقوا على تحقيق ما كانوا يرونه في الحلم فقط، أو أنّهم هؤلاء المتمدرسين في العهدين السّابقين و الذين وصلوا إلى مراحل الدّراسات الجامعية، التي بفضلها أصبحوا يقدّرون ما هم فيه و ما هم بصدد إنجازه. و في هذا الصّدد،أستطيع أن أجزم بعدم وجود فروقات كبيرة في مستوى الحرفيّة بين الدّوائر الانتخابيّة، إذ أنّي و علاوة على أنّي كنت مترشّحا مستقلاّ في هذه الانتخابات، بما يمنحه الترشّح من ممارسة عن قربٍ لجميع صنوف العلائق مع هذه الهيئة في مستوى الدّائرة التي ترشّحت فيها، إلاّ أنّي حاولت قدر المُستطاع الاقتراب أكثر من بقيّة الدّوائر بالسّؤال و الزيّارة و طلب الاستفسار حتّي يكون ما أحكم به رأي محلّل من الخارج لا رأي عنصر من الداخل. و عليه فإنّي أدعو من اليوم كلّ أبناء بلدي إلى أن يضعوا لافتة في كلّ ولايات الوطن... في الحدود و على المطارات... يُذكر فيها بالخطّ العريض ... لدينا خبرةُ هيئة للتّصدير ... و الثّمن غالي لأنّها... صُنعت من بلّور... في تونس. فتحي الزغل [email protected]