لم يبعث رسولا لكنه كاد أن يكون كذلك حين حمل أمانة الأجيال ، وبكراسة وقلم سعى لإخراجها من الظلمات إلى النور. من زمن المشيخة والمؤدب إلى زمن المعلم والأستاذ ، حكايات تروى وقصص تذكر ، نظرة اختلفت ، وسلوكيات تغيرت ، والمُلام "جيلٌ جديد" لوقت تبدل ، فتبدلت معه أعراف التدريس وملامح التبجيل بعد أن رفعت له المحفظة شأنا أصبح يأبى حملها حتى لا يشار إليه بالمعلم ، وبعد أن وضعت الملائكة أجنحتها له صار يستحي من ارتداء المئزر حتى لا يقال عنه طالب عدم الاحترام الذي وصم علاقة المعلم بتلميذه والأستاذ بطالبه وبوليّهما منح للجميع حجة للتنافر والتباعد ، فالمعلم مُدان إلى أن تثبت براءته والتلميذ مستهتر حتى يبيّن جدارته اتهامات متبادلة، شعور بالقسوة وآخر بعدم الاكتراث، لعب ولهو ، وأما الدراسة فمأجّلة إلى حين غير متبوع بأجل. آخر فصول هذه العلاقة في بلادنا هذه الأيام تعددت معالمها وتنوّعت سيناريوهاتها بين المعلم والتلميذ ، والمعلم والوزارة ، والمعلم والأولياء ، فمن دعوة وتنفيذ لحجب أعداد التلاميذ عن الإدارة في الابتدائي إلى إضراب لمتفقدي البكالوريا ، إلى تواطؤ بعض الأساتذة في أساليب الغش في هذا الامتحان الوطني ، إلى اقتحام نقابات تمثّل القطاع مكتب الوزير … إنه الزمن الرديء الذي تحوّل فيه من "كاد أن يكون رسولا" إلى سمسار جشع لا همّ له سوى تجميع المكاسب المادّية والانقضاض على دولة مترهّلة مثقلة بعقود من الفساد والإفساد ، زادها الهواة السياسيون من "آل الترويكا" وانفجار المطلبيّة النقابية غير المسبوقة ، ثقلا في ديونها ومشاكلها . إنه الوجه المشؤوم من وجوه الأمراض المزمنة التي أصابت المنظومة التربوية في مقتل ببلادنا حين يتحوّل المربي بعد وباء الساعات الخصوصية التي سمّتها الأستاذة ألفة يوسف بالدّعارة التربوية ، إلى سمسار لا همّ له سوى الرّبح والتربّح من الدولة أو من الولي ، ولا يرى في التلاميذ الا رؤوسا للقطيع يجب حراستهم في الحظيرة وابتزازهم ماديا وإرهابهم نفسيا وتهديدهم والتلويح بسلاح الأعداد وحجبها وبالرسوب لكل من سوّلت له نفسه أو سوّلت لولي أمره أن يرفع عقيرته بالاحتجاج. إن من يفترض بهم أنهم يربّون الأجيال، ويعيدوا الاعتبار لهذه المهنة والمكانة الاجتماعية التي يستحقها هم -مع الأسف الشديد- هؤلاء السماسرة الدخلاء على هذه المهنة الشريفة الذين يمرغون كرامتها في التراب بسلوكاتهم المعروفة عند الجميع ويطالبون مع ذلك بمنحة مشقّة لا شقاء ولا تعب قدّموه ليستحقّونها إن جاز لهم هذا الاستحقاق ، فهم دائما غائبون وإن حضروا ناموا أو تكاسلوا وإن استيقظوا فلتمثيل مسرحياتهم الهزلية التي لم تعد تنطلي على أحد، ومع ذلك فهم يتقاضون أجورهم وزيادة ، بفضل الساعات الخصوصية التي يفرضونها على تلامذتهم وأوليائهم ؟! ماذا قدمتم في الساعات المهدورة من حياة أبنائنا الأبرياء الذين يذهبون الى المدرسة والمعهد ثم يعودون خاويي الوفاض ، لأن المعلم والأستاذ السمسار غائب ، ويعدهم بالإسعاف في الحصص الإضافية التي يقدّمها لهم في "ڤراج" منزله أو في بيوتهم ؟ إن أبناء الشعب هم ضحايا بعض رجال التعليم الذين يغشون ويسمسرون في كل شيء بلا مبرر ثم يذهبون في نهاية الشهر لتلقي أجرة عمل لم يؤدوه ليراكموا الثروات. يا أخي من أراد تحسين وضعيته فما عليه سوى الكد والاجتهاد والنضال في صفوف النقابات الشريفة بدل الاختباء والتستر وراء أشخاص في نقابات اتضح زيف شعاراتهم . أنا على يقين أن كلامي لن يعجب الكثيرين وسيُجابه برد عنيف من طرفهم ، ولكن الحقيقة أن هذه الفئة لا تشرف مهنة التعليم بل ولا تشرف حتى مهنة السمسرة التي لها أصولها وقواعدها البعيدة عن أساليب التدليس والغش والمكر والخداع والمطلبيّة التعجيزية ، هذا هو المعلم النموذج ، القدوة ، التربوي ، مربي الأجيال الذي كاد أن يكون رسولا … وحتّى لا أتّهم بالتحامل والثلب على كل منتسبي الحقل التربوي بكل مكوّناته – وهو حاصل لا محالة – أقول هنيئا للتونسيين من نساء ورجال التعليم النزهاء الشرفاء ذوي الضمائر الحية الذين ما زالوا يعتبرون التدريس رسالة وجهادا وواجبا مقدسا، ونعم المربّون الشرفاء – وما أكثرهم – الصابرون المثابرون المجدون المخلصون الموجودون بثقلهم النوعي والكمي، بناة أجيال الغد الغارقون في الديون ، المرضى بالسكري وضغط الدم وبكل الأمراض المزمنة الناتجة عن العمل الجاد والكفاح الأبدي ، ضحايا السبورة السوداء والخضراء والطباشير ، المتنقلين بين البنوك والمستشفيات والصيدليات ، الذين يصرفون أجرتهم على الأدوية وعلى الحد الأدنى من العيش الكريم فيما زملاؤهم السماسرة يتطاولون في بناءاتهم الإسمنتيّة ويشترون العقارات ويتفنون في تغيير موديلات السيارات … تنويه : ما يُنشر في هذا الركن لا يُلزم إلا أصحابه