لا شك أن المشهد السياسي التونسي كان ولا يزال يتميز بالتنوع مثلما هو يعاني أيضا من التشتت. وهذا التنوع ليس غريبا عليه فحتى في أشد أيام الاستبداد فإن هذا المشهد كان ثريا ومتنوعا رغم أنه لم يكن قادرا على العمل في العلن ومدفوعا للتخفي أو التستر وذلك بالاندماج وسط بعض الجمعيات أو المنظمات والاحتماء بها … ورغم الخلافات الحادة التي جعلت النظام والحزب الحاكم السابق يستفيد منها بضرب بعض الأطراف ببعض واللعب على تناقضاتها..إلا أنه وفي لحظة تاريخية مفصلية ومتميزة تعالت جل التيارات والأحزاب السياسية عن تلك الخلافات وأسست أرضية عمل مشترك للتصدي لخصمها اللدود المشترك ألا وهو النظام الدكتاتوري لبن علي ولحزبه التجمع وكان ذلك من خلال تأسيس حركة 18 أكتوبر 2005 والتي جمعت تقريبا جل إن لم نقل كل التيارات السياسية في تونس من لبرالي واشتراكي ويساري وإسلامي وقومي….الجميع التف حول فكرة واحدة وهي مقارعة نظام الاستبداد والعمل على الضغط عليه من أجل تعديل أوتاره ورفع سقف الحريات… لقد شدت تلك المبادرة حينها الانتباه وأسالت الكثير من الحبر بين مشكك ومساند ورافض …فكيف تتحالف الأضداد؟؟؟ وكيف يمكن لليساري أن يعمل جنبا إلى جنب مع الإسلامي واللبرالي وكل منهم على طرف نقيض؟؟؟ ثم انفرط عقد هذا التحالف شيئا فشيئا وخفت بريقه حتى كاد يلفه النسيان إلى أن جاءت ثورة الحرية والكرامة التي قلبت الأوضاع في تونس رأسا على عقب …وقلبت الطاولة على رأس الاستبداد والفساد وعلى نظامه وآلته الحزبية الجهنمية… وعاد البعض يحاول النفخ في نار تحالف 18 أكتوبر 2005 لعله يظفر بقبس منها تحت الرماد ينير به عتمة المشهد الذي ادلهم إثر فرار المخلوع هاربا… لكن وللأسف الشديد لم تنجح تلك المحاولات وعادت ريما لعادتها القديمة …اصطفاف إيديولوجي مقيت وتمترس حول مقولات وشعارات أكل عليها الدهر وشرب… وزادت نتائج الانتخابات التأسيسية من تأزم الوضع واحتدام الصراع خاصة عندما انتفش الفائزون كالطاووس ونعتوا منافسيهم بجماعة الصفر فاصل كما هرول المنهزمون للإعلان أنهم سيعملون في صف المعارضة وشحذ كل فريق سكينه من أجل الإطاحة بالأخر في أول بادرة ضعف وقد أربك كل ذلك الحياة السياسية بتونس وجعل التوتر يطغى على المشهد السياسي .. ولكن ورغم كل ذلك لازلنا نرى بين الفينة والأخرى بعض الوضعيات التي تأشر إلى أن التقارب ممكن ولو في عز الخلافات وأن الحرب الكلامية جاءت كردود فعل على بعض المواقف المتطرفة من هذا الطرف أو ذاك وسأشير هنا إلى البعض منها: . المعانقة الشهيرة بين المنجي الرحوي والحبيب اللوز تحت قبة التأسيسي. . اللقاءات العديدة التي جمعت رؤساء مختلف الأحزاب المتناحرة وخاصة خلال الحوار الوطني وما انبثق عنها من توافقات. . تزكية العديد من أعضاء التأسيسي عن النهضة لمترشحين من أحزاب منافسة وحتى معادية. وهنا تحدث اللخبطة في ذهن الناخبين والملاحظين والمتابعين والمحللين وتنتشر البلبلة حتى في صفوف قواعد وأنصار تلك الأحزاب والمتبنين لفكرها والمتعصبين لها… فكيف يزكي من هو متهم بالتخلف والرجعية والظلامية والمتاجرة بالدين ودعم الإرهاب من يتهمه بكل تلك الصفات البشعة؟؟؟ وكيف يقبل من يعتبر نفسه تقدميا ومتحررا وعدوا للظلامية بتك التزكية؟؟؟ ومن ناحية أخرى كيف يسمح من يعتقد نفسه أنه على الطريقة المثلى وأنه على طريق الحق والصراط المستقيم من يعادي الدين ومن يعده أفيونا للشعوب ويطالب بإقصائه من الحيات العامة ؟؟؟ وكيف يتحالف العلماني مع الإسلامي مع اليساري واللبرالي؟؟؟ وما يزيد من رفض أنصار كل فريق وحتى المواطن العادي واستهجانه لذلك التقارب أو التوافق أو التحالف هو الخطابات النارية والعدائية التي يطلقها كل طرف في حق الطرف الأخر من اتهام بالعمالة والوقوف وراء الاغتيالات ودعم الإرهاب والعمل على تخريب الاقتصاد وتدبير الانقلابات وتخريب الاقتصاد… بما يتنافى تماما مع ما تميزت به المرحلة من توافق وتشاور وحوار وحتى تقارب وتحالف… إن الساحة السياسية في بلادنا مفتوحة على كل الاحتمالات في المرحلة القادمة وليس من المستبعد أن نشاهد تحالفات إثر الانتخابات التشريعية القريبة القادمة يعتبرها البعض في غاية الغرابة والتنافر ولكن المتابع الحصيف يدرك أن ما نشاهده من تصريحات نارية ومشادات كلامية ليس إلا محاولات لكسب الأنصار وللتسويق للذات لكن الحقيقة التي يعرفها الجميع ويحاولون إخفاءها بشتى الطرق هو أن التوافق والتفاهم والتحالف هو مطلب الجميع وغايته والمنقذ الوحيد للبلاد مما تردت إليه من سوء أحوال؟؟؟ فهل يتم تغليب المصلحة الوطنية العامة عن الصراعات الإيديولوجية الضيقة التي يدفع إليها المتطرفون من كل فريق والتي لن يكون حصادها سوى الفشل والخسران؟؟؟