"عضة خفاش" تحيل نجم المصارعة على المستشفى    وزارة الصحة الكويتية تعلن ارتفاع حالات التسمم والوفيات الناتجة عن مشروبات كحولية ملوثة    الترجي الرياضي التونسي : جزائري-فرنسي في خطة مدير رياضي    الأولمبي الباجي يتعاقد مع اللاعب محمد أمين الذويبي لمدة موسمين    كرة القدم العالمية : على أي القنوات يمكنك مشاهدة مباريات اليوم الجمعة ؟    منشور حول الإعفاء العمري في السنة الاولى    رائحة الجثة كشفت الجريمة...يقطع رأس والده و يدفنه في منزله!    في عرض لأول مرة...«غناية ليك»باقة فنيّة إبداعية    صفاقس .. في الدورة الثالثة لمهرجان القرب... طينة تهتزّ على إيقاع الفرح    عاجل: مهرجان قرطاج يكرم الفنان الكبير الفاضل الجزيري    خطبة الجمعة...التوسّط في الإنفاق ونبذ الإسراف والتبذير    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    وعد ووعيد.. حرب من الله ورسوله    خطير: محاولة إضرام نار داخل عربة مترو رقم 4 وشركة النقل تندد وتتوعد    وزير الصحة: تونس جاهزة لتكون قطبًا إفريقيًا في إنتاج الأدوية واللقاحات    عاجل: إلغاء عرض 'كي-ماني مارلي' في مهرجان قرطاج وتكريم الفاضل الجزيري    عاجل/ "رؤية إسرائيل الكبرى": بيان إدانة شديد اللهجة من تونس على تصريحات نتنياهو    عاجل/ حفظ هذه التّهم في حق سليم شيبوب    حجز وإتلاف مواد غذائية ومياه غير صالحة للاستهلاك في الكاف وبنزرت وجندوبة    وزير الخارجية يتسلم نسخة من أوراق اعتماد سفيرة الدانمارك الجديدة بتونس    عاجل/ إلغاء التفرّغ النقابي: أوّل رد من إتحاد الشغل على منشور رئاسة الحكومة    6 خطوات بسيطة للحفاظ على صحة المفاصل مع التقدم في العمر    ترجي جرجيس يعزز صفوفه بالمهاجم النيجيري ستانلاي اوغوه    وزارة الدّفاع الوطني تعلن أنّ حصّة التجنيد الثالثة لسنة 2025 تنطلق يوم 1 سبتمبر 2025    توننداكس ينهي جلسة الخميس على وضع شبه مستقر في ظل تداول قرابة 8ر7 مليون دينار    قبلي: تدخل طبّي أوّل من نوعه بالمستشفى المحلي بدوز يمكّن من انقاذ حياة مريض مصاب بجلطة قلبية    نصيحة من "تشات جي بي تي" تدخل رجلا المستشفى..ما القصة..؟!    زغوان: الشروع في تحيين الدراسة الفنية لمشروع توسعة مبيت مركز التكوين والتدريب المهني بزغوان    شنية حكاية لعبة «روبلكس»...خطيرة على الصغار و المراهقين و دول منعتها ؟    بورصة تونس: إطلاق تداول أسهم تأمينات البنك الوطني الفلاحي    بإحتفالية "الدون": شيماء التومي تتأهل إلى نهائي دورة كازاخستان للتايكواندو (فيديو)    طرشون يوضح: ''فكرة تقاسم الأعمال في الدار دراسة تربوية برك...ما فماش قانون معمول بيه''    بلدية باردو تدعو متساكنيها الى ضرورة الانتفاع بالعفو الجبائي لسنة 2025    النجم الساحلي: ثلاثي جديد على ذمة لسعد الدريدي في مواجهة النادي الإفريقي    وزارة التجارة تنفذ حملة ضد أجهزة التكييف المتاتية من السوق الموازية    الاتحاد الأوروبي يرفض أي تغيير بالأراضي الفلسطينية دون اتفاق سياسي    تونس لم تسجّل إصابات بفيروس "شيكونغونيا" وتواصل مراقبة البعوض الناقل    عاجل/ تحذير ودعوة للانتباه من تكون سحب رعدية بهذه السواحل..    عاجل/ وفاة شاب بصعقة كهربائية داخل مطعمه..    عاجل : تفاصيل الإعلان عن مواعيد النتائج النهائية لمترشحي مراحل التكوين الهندسي لدورة 2025    ميلانيا ترامب تتوعد بمقاضاة نجل الرئيس الأميركي السابق    السودان: الكوليرا تقتل 40 شخص في أسبوع    بلاغ هام للطلبة..#خبر_عاجل    بنزرت: حجز عدد هام من التجهيزات الكهرومنزلية غير المطابقة للمواصفات    القيروان تحتضن الدورة الثامنة للمهرجان المغاربي ''للكسكسي''    نبيهة كراولي تختتم مهرجان الحمامات الدولي: صوت المرأة وفلسطين يصدح في سهرة استثنائية    مهرجان قرطاج الدولي 2025: صوفية صادق تغني في عيد المرأة ... بين وفاء الذاكرة وتحديات الحاضر    عاجل/ صفقة شاملة لغزة.. تفاصيل المفاوضات في القاهرة..    رئيس الجمهورية يزور معتمدية سجنان بمناسبة الاحتفال بعيد المراة    عاجل : فلكيا...موعد عطلة المولد النبوي الشريف 2025 للقطاعين العام و الخاص    "فايننشال تايمز": توتر متصاعد بين ترامب وزيلينسكي عشية قمة ألاسكا    الرابطة الأولى : كلاسيكو ناري في سوسة وقمة مثيرة في رادس    فظيع في القصرين :يقتل والده ويدفنه في المنزل !!    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    سعيد: لابدّ من العمل اليد في اليد للقضاء على الفقر والفساد    رئاسة الجمهورية تكشف فوى زيارة سعيد لمعتمدية سجنان..#خبر_عاجل    رئيس الجمهورية في زيارة غير معلنة إلى سجنان: التفاصيل    هام/ عطلة بيوم بمناسبة المولد النبوي الشريف..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سماحٌ برحيل الحزن (قصة قصيرة)
نشر في الشاهد يوم 23 - 08 - 2020

هو ذاك السّاحر العميق الذي يتسربل بالقداسة الأسطوريّة ويتسرّب إلينا بالعذوبة الطاغية ويتطفل بالجلال الغامض. ينقش في ملامحنا الآثار بجمال آسر. يعزف على أعصابنا بفاعليّة سامية. نستسيغه رغم نبشه العميق فينا. نطلبه أحايين شتى ونطالبه بمزيد الولوج والتوغل. نُفسح له مساحات واسعة، ليستوطن ويغور ويغتصب. كأننا مازوشتييّ الطباع منذ الأزل، نهوى تعذيب أنفسنا والنيْل من أرواحنا لعرقلة التمتع بالحياة.
واجه جرحه الغائر ومشاعره الدفينة المختزنة من شهور. اعترف بمشاعر الفقد المتأججة. هذا الألم النّاهش الذي يعتصره منذ فراقها إلى غيْر رجعة. حين غادرته روحها الثمينة، وجسدها نديّ دافئ يئّن بيْن يديّه. احتلّ الحزن والخذلان واليأس جلّ منافذ قلبه. شهور طويلة من الخسران والندم مرت من حياته، وهو حاضر بجسد غائب الروح. لم يقبلْ برحيلها ولا بمساعدات الأصدقاء والأحبة له، كيْ يتخطى فقدها ورحيلها الأبدي. امتشق قراره من عمق اللاوعي، بالتخلي عن ذاك الحزن المجندل لخلاياه، بدلا من وجوده بداخله مقموعا بالوعي النبيل، يدمره ويقتله ببطء. يقضي على إحساسه بالحياة وقدرته على العطاء والبذل. حيث كانت "هي" الضيّاء النّاهض، القافز من الأبديّة، لينير سنواته الباقيات.
نقل إليّها المرض دون قصد أو تعمد. لم يكنْ يدري أنه موصل إيجابي للفيروس. لم تظهرْ عليّه أيّ بوادر أو أعراض معروفة. وهو الطبيب الصالح والممارس العارف والمعالج الجيّد. جمعتهم سنوات العمر برفق ومودّة، كجيران في نهج واحد ومدرسة إعدادية واحدة. ثم استكمل رفقتها في معهد ثانوي بتفوق. تعاظم العشق والوله خلال فترات الصبا والمراهقة والنضج، وصولا إلى مرحلة الوعي واتخاذ القرار. إلى أن تخرجا من كليّة الطب في تخصصيْن متكامليْن. ارتبطا معا في حياة اجتماعية شرعيّة وقانونيّة بعد الارتباط الاجتماعي والعاطفي والروحي. فتحتْ "هي" عيادة خاصة لممارسة التخصص الدقيق، معتمدة على رحابة العامل الاقتصادي لأسرتها وقوّته. بينما استمر "هو" يعمل في مؤسسات الصحّة العموميّة، متنقلا بين الولايّات على كامل تراب الجمهوريّة. ليعود إليها شهريّا، عاشقا مشتاقا، ومغرما متجددا. كانت فترة انتشار المرض في ربوع الولايات وقراها الداخليّة من أسوأ الفترات التي عمل بها، وأقساها من الناحية النفسيّة والعصبيّة والاجتماعيّة. ليس بسبب انتشار المرض فحسب، ولكن بسبب الخوف من الموت القريب الداهم، الذي صار كالشبح يمشي بين الأنهج والطرقات متعجرفا. ويسكن عيون الأفراد ويحتل عقولهم ويسيطر على أفكارهم ويمحق كلّ تاريخهم من الوداعة والانضباط.
حمل إليها المرض، حين عاين أسرة قادمة من دولة آسيويّة، في منطقة الساحل، وأظهرت النتائج الإيجابية حملهم للفيروس، فأمر بإخضاع كلّ الأسرة للحجر الصحي في المشفى العمومي على الفوْر. لكنه حين رجع لمنزله بالعاصمة لم يلق بالا، لا بالمحاذير المفروضة ولا بالاحتياطات المعلنة. أسقط جميع البروتوكولات الصحيّة العامة دون حذر. تقاعس عن تنفيذ إجراءات الحمايّة والتدابير الوقائيّة سهوا. فسرعان ما ظهرت على زوجته وحبيبة عمره الأعراض الفوضويّة للفيروس مع ارتفاع متصاعد في درجات الحرارة، وازدياد حدة الآلام في كامل أنحاء الجسد. وتفاقم الأمر سريعا، لتفقد الزوجة والحبيبة حياتها في أيّام معدودات. وسط ذهول الزوج العاشق والطبيب المعالج في نفس الوقت. كانت الصدمة أفظع من أن يصدقها أو يتخيلها أو يتحملها. زلزلت نفسه القويّة وأربكت صبره الفولاذي. حمل وزر أن يكون الحبيب العاشق والزوج الوفي والقاتل الغادر في الحياة الدنيا في آن واحد. هكذا رأى ذاته الآثمة، التي لم تحرصْ على ذات الحبيبة. لم تحمها أو ترعاها كما يجب. هجر العمل والأهل والأصحاب وروح العصر والأيّام، مُقحما ذاته في عُزلة طوعيّة جاءت بعد فوات الأوان. عاش كوحش ساغب، تائها في صحراء الفقد المترامية الأطراف. شاردا مع ذكراها. غارقا في صمته الصاخب. هائما مع تفاصيل حياته الطويلة معها، ودقائق واقعهما المتزاحم الأحداث، واهن النفس. غيْر مصدق جرأته القبيحة في العودة الأخيرة لملاقاتها بالأحضان والقُبل دون حذر أو اهتمام. خمسة أشهر مرّت بأيّامها وليّاليها ودقائقها وثوانيها ولحظاتها، يعيش في غرفتهم الخاصة، لا يتنفس سوى جرمه ولا يعيش إلا بذنبه. غيْر متقبل لرحيلها المكوكي المارق.
لم يقدرْ أنْ يستفق من صدمة الفقد كي يواجه الحقيقة عارية. كان الفقد عظيما، كما كان غرامهما عظيما، وكما كانت رفقتهما عظيمة. رفيقة دربه وتوأم روحه. وحبيبته في الصبا. وصديقته في المراهقة. وصاحبته في الجامعة. وزوجته وعشيقته وسنده ورفيقة دربه في الحيّاة الدنيا. كانت لا تفارقه في يقظته. حينما كان يستدعيها في كل خلجاته وتحركاته وهذيانه، حوْل كلّ بقعة داخل غرف المنزل. غارقا في ندمه من العجز والخسران. ما بيْن اليقظة والمنام يتقلب، ويتقلب معه صدى أفكاره التأنيبيّة القاسيّة، القادمة رأسا من منطقة "السوبر إيجو": " لو كنت حرصت على...، إن كنت فقط اهتممت بال...". حتى يصرخ من أعماقه: "آه، أين ذهبت عني أيتها الدُرّة. ماذا فعلت يداي بك أيتها الروح الطاهرة. لا أستطيع حقا العيش دونك".
مثلما يردد أهل التصوّف "ليس العطشان وحده منْ يبحث عن الماء، بل الماء أيضا يبحث عن العطشان"، جاءته في ليلة شديدة الحرارة من منتصف شهر "جويلية". في مرّة من مرّات مناماته التي تشبه الموات. حينما كان يسقط مغشيّا عليه من أثر طول السهر، وإرهاق زندقة العقل، وتشويش الأفكار بتأثير الأدويّة المنوّمة القويّة الجرعة. جاءته نقيّة، أنيسة، حانيّة، باسمة، تطالبه برحيل حزنه المضني عنه. تشجعه على العودة لحياته العاديّة مهنيّا واجتماعيّا. جاءته آمنة، دانيّة، ماجدة، مبتهلة، لرأب صدع نفسه المتشظيّة الأليمة. تأخذه من صمته المتوحش وتوحده المخاتل ونفوره من واقعه وحياته. جاءته معالجة، طبيبة، مرافقة، عاشقة، لتطبّق عليّه تقنيّة عمليّة في علم نفس الذات والعلاج بالطاقة وانصهار الوعيّ واللاوعيّ داخل النفس البشريّة الصعبة المراس. دكتْ حصون طاقاته السلبيّة الكامنة، المختزنة والمهيمنة على روحه وذاته. لتسمح لها بالتحرر أولا، ثم بالظهور والتواجد بين طيّات اللحظات المعيشة. ليدرك ذلك فيه وبداخله وحوله ويقبله. تساعده على السماح برحيل مقاومته ضد الحزن عليها. تعبر به ركام الألم الذي يعتصره منذ شهور. لمست قلبه النابض بالذكرى ومسدت رئتيه المُترعة بالمخزون السخي من الأحزان. شهيق زفير، شهيق زفير متسارعان، متصارعان، متألّمان. حملته بين يديّها كطفل رضيع طيّع، قد أرهق قلبه كثرة البكاء والعويل. قربته من صدرها واحتضنت رأسه بحنان واشتياق. مسحت قطرات من عرقه المتصبب الجامح. وهو يُكيّل إليها ارتجافات مبعثرة. يشهق بدموع زاكيات وعبرات عنبريّة تنسكب مدرارا. يتفصد عرقا، نادما، واهبا روحه لها، متمنيا عودتها ولو لحظات أخرى. مدت يديّها بيْن خصلات شعر رأسه الفضيّة، صوب لفائف ذاكرته الثريّة المطويّات بعنايّة. متسترة خلف غمامة الانتشاء والغواية. انسالت قراراته الواعيّة الحكيمة وآرائه الشجاعة الحاسمة التي طالما حاصرت حياتهما معا حاميّة مُنقذة. التي قد انتشلتهما من كوارث جمّة ومطبّات غابرة مضتْ. مرّت على عقله اللاواعي بيقين رقراق ناصع، لتُحرر انسانيته الخافتة الهشة، وتُنعش روحه البائسة الواجمة. فاق على زفرات عميقة صاعدة من شقوق الفؤاد، تمخر عباب الروح وهو يُردد: أسلمت لله الجبّار حزني. وأفوض أمري لمولاي ربّ العالمين".
د. أنديرا راضي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.