"من يحب كثيرا، يبذل كثيرا، وينجز كثيرا. وكل ما صنع في ظل الحب؛ يخرج متقنا". فنسنت فان جوخ اعتبرتها فرصة عمرها التي جاءتها بعد طول انتظار وتمنّ، وهدية ثمينة تقدم إليها على طبق من فضة. أن تقبل فرصة الانضمام إلى أسرة التدريس بالمدرسة الابتدائية الوحيدة بالقرية بشكل عارض. تعوض به استكمال جهد وبرنامج معلمة قسم أساسية داهمتها اعراض الولادة على غير توقع، في الشهر السابع. كانت "ألفة" تقاسي تفاصيل معيشتها كأبناء جيلها الذين أصابهم ما أصابها من يأس البطالة و ظلف العيش، وانتظار أمل خافت مهترئ باستحقاق التشغيل، في ظل حكومات هزيلة متعاقبة ووزارات مهزومة غير قادرة على حل مشاكل الشباب المتراكمة منذ ما أطلق عليه ثورات الربيع العربي، بالرغم من علمها اليقيني بالنقص الفادح في عدد المدرسين والمعلمين بالمقارنة مع ازدياد عدد التلاميذ في الأقسام سنويا. والضعف المادي العام لتلبية مستلزمات ووسائل الإيضاح المهمة، إلى جانب تهالك المباني والمؤسسات التعليمية على مستوى الجمهورية كلها، وليس في مستوى الولاية التي تنتمي إليها فقط. قررت ألفة مساعدة نفسها، وأسرتها بالأساس، حين لجأت إلى تنفيذ مشروعها البسيط. وتخصيص غرفة من بيت أسرتها المتواضع لدروس التقوية في جميع مواد القسم الأول من مرحلة التعليم الأساسية، لبنات وأولاد الجيران والأقارب والأصحاب بسعر رمزي. عملت ليلا ونهارا وطوال أيام الأسبوع على مدى سبع سنوات كاملة، دون اعتبار الإجازات والعطل، حتى تستطيع توفير مساعدة محترمة لأسرة بسيطة في قلب الجنوب ضحت بالغالي والنفيس، وقدمت كل ما تملك من أجل تعليم أبنائها حتى يصلوا المستوى الجامعي. دخلت القسم صباحا مزهوة، متفائلة. تغالب القلق والتوتر البادي ببرودة أطرافها ودقات قلبها السريعة بالابتسام والصمت. وكأنها سترى صغارا لأول مرة في حياتها وتلقي عليهم دروسا لأول مرة. بعد أن قدمها السيد المدير، من أمام مدخل باب القسم، للتلاميذ: "مدام ألفة" المعوضة، التي ستتولى مهام "مدام خديجة". وانصرف في عجالة لبقية مهامه. دارت بعيونها المبتسمة بين أطفال القسم ذوي الوجوه النضرة والعيون الفضولية والأرواح البهية، رغم اكتظاظ المقاعد بهم. وبدأت عملها بمراجعة سريعة لما درسوه من معلمتهم السابقة، وسط تجاوبهم وتفاعلهم الذي رأت أنه طيبا ومبشرا. مر الوقت سريعا طوال ساعات الفترة الصباحية في نشاط وحيوية ورضا نفسي عظيم. لدرجة أنها لم تنتبه لنوافذ القسم المغلقة طوال الوقت رغم ساعات الصباح المنيرة وشمس الربيع الدافئة. وما إن خطت بقدمها داخل القسم في اليوم الثاني، واتجهت صوب النافذة الأولى لتفتحها. حتى فزع التلاميذ الصغار جميعهم، بصوت كورالي حاد، في وقت واحد، رافضين ذلك، محذرين، منقسمين بكل ثبات قلب، إلى قسمين بالتمام والكمال، أو هكذا بدا لها في أول الأمر. القسم الأول تحلق حول طفلة تجلس في الجهة الأخرى البعيدة عن النافذة. أما القسم الثاني فقد هرع ناحية النافذة، رافعا كلتا يديه أمام مرور أشعة الشمس. صعقت المعلمة وجفلت أطرافها حتى الأعصاب من فجئية الفعل والتصرف التلقائي للصغار، مستغربة، حيرى. تراجعت للوراء كي تتمكن من البحث عن كرسيها لتجلس عليه، لم تجد سوى منضدة الدرس لتستند عليها مخافة أن لا تتمكن قدميها من تحملها. لحظات أخرى حتى عاد الهدوء الحذر للقسم المزدحم بالهمهمات والهمسات. "إنها لا تعرف... لا تقصد إيذاءها... لم يحك لها السيد المدير عن "نجاة". تأكدوا من احكام اغلاق النافذة". نظرت صوب الجانب الأيسر من القسم حيث يتجمع الصغار المتمترسين لحماية زميلتهم، فوجدت "نجاة" طفلة القمر، وقد ارتدت قناعها الخاص، محتمية خلف مجموعة الأجساد الصغيرة المحبة الواعية مطمئنة. سمعت عنه من قبل. لكنها أول مرة ترى من يحمل جيناته متجسدا يمشي على قدمين. لم تكن قد قرأت عنه الشيء الكثير. هذا المرض الخبيث "اكزيروديرما- بيجمنتوزوم" أو "جفاف الجلد المصطبغ" والمعروف اصطلاحا لدى الناس "أطفال القمر". وهو المرض الوراثي النادر الذي يأتي من زواج الأقارب ويتسبب من تلف جيني على كامل الجلد وفي العينين بالخصوص. ولأن أشعة الشمس هي العدو الأول والأكبر فقد حاول الصغار حماية زميلتهم منها، وتقبلوا إغلاق النوافذ المستمر من أجلها. لأنها تسبب لهم تشققات بالجلد، تتطور إلى حروق لا تلتئم. ناهيك عن خوفهم الشديد من الضوء الساطع الذي يستفحل شيئا فشيئا حتى يصل لدرجة الرهاب العصبي. وللأسف لم تقدم الحداثة في التكنولوجيا والتطور في العلوم الطبية والمعارف الإنسانية في القرن الحادي والعشرين أي علاج نافذ أو دواء فعال للشفاء النهائي من هذا المرض الغريب. كان كل ما عليهم فعله - حاملي هذا المرض النادر -الابتعاد التام عن أشعة الشمس والضوء الباهر. وحماية جفاف الجلد باستعمال الكريمات المرطبة و المراهم الملطفة بشكل دائم ويومي، صباحا ومساء، والحرص على ارتداء الأقنعة الخاصة بهم التي تحمي رؤوسهم بالكامل حتى منتصف الصدر تقريبا في أي مكان خارج المنزل، أثناء تعرضهم للأشعة والضوء الصراح. تمالكت المعلمة مشاعرها وأعصابها تماما، بعد أن مس الموقف كل خلجاتها. واقتربت بلطف وعناية من "نجاة" طفلة القمر الصغيرة ورجتها أن تهدأ، وكأنها ترجو ذاتها العميقة هي. وأن تخلع عنها قناعها الخاص، حتى تتمكن من الاطمئنان عليها بعد أن زال الخطر وتمكنوا من إعادة إحكام إغلاق النافذة مرة أخرى. جلست "نجاة" فوق مقعدها بكل هدوء وثقة، وجميع من بالقسم قياما، وبدأت في حل حزام قناعها ثم خلعت القناع من على جسدها واضعة إياه فوق الطاولة. دققت "مدام ألفة" النظر إلى وجهها النوراني البريء وشعرها الكستنائي الأشعث وعيونها البراقة وخدودها التي اكتست حمرة الانفعال والخجل من الموقف المباغت اللحظي. متنبهة إلى البقع اللونية الداكنة التي تغطي وجهها وكفيها وكامل جلدها، أشبه بالنمش. ودت لو احتضنتها وسرت بها صوب نجوم الأكوان راقصة مفاخرة. "يا لك من بطلة فاتحة. يا لك من أميرة محبوبة. أهكذا تديرين المعركة! و تدافعين عن وجودك وتسيرين جيش جنودك الأوفياء، وتحركين فيالق لواءاتك المخلصين!. أحسنت، وبوركت، ونجوت يا فتاتي المعجزة." لم تستطع المعلمة ترجمة أي مما يعتمل في صدرها من مشاعر جياشة. ولا أن تعبر عما تثيره دقات قلبها من صخب وتضارب في تلك اللحظات القليلة المكتنزة بالدرامية، سوى أن تسألها بابتسامة عريضة: "أنت لابأس نجاة؟!". فأومأ إليها رأسها الصغيرة بالإجابة. رجعت "مدام ألفة" إلى مكان طاولتها في صدر الغرفة، طالبة من الجميع الرجوع إلى مقاعدهم لاستكمال الدروس بهمة عالية ومثابرة مخلصة. كان ما فعله الصغار - بكل عفوية ونزاهة ومحبة واحترام لرفقة دراسية دامت خمس سنوات- تجسيدا عمليا مشرقا ومشرفا، لما يجب على كل أمة أن تنفذه تجاه القلة النادرة من أفراد شعبها الذين يعانون من التشوهات العديدة والمختلفة ظاهريا في الجلد والملامح وداخليا في الأعصاب والعروق التي تؤثر سلبا على السلوك والأفعال. وهي درجات عدة من التشوهات تظهر على حاملي جينات هذا المرض الغريب حسب قوة وردة فعل جينات الحمض النووي لكل مريض. اختار الله سبحانه أفراد أولئك الفئة المختلفة من البشر ليحملوا كنه الاختلاف وعمق التفرد بين مخلوقاته البشريين في الكون الفسيح. متحملين إهمال المسؤولين الحكوميين وقلة رعايتهم واهتمامهم على مر الفترات الرئاسية المتعاقبة، وغبن مجتمعاتهم القاسية، بالرغم من وجود القوانين العالمية التي تحميهم و تعترف بحقهم في العيش الكريم والتمتع بالخصوصية الحياتية، بكل سعة صدر وصبر. واثقين في رحمة وتدبر الخالق العظيم وحده. رجعت "ألفة" من نهاية يوم عملها في اليوم الثاني لتنكب فوق كتبها الدراسية. باحثة عن نظريات البيداغوجيا الحديثة التي أهملتها سنين. تقلب في تفاصيل أهداف البيداغوجيا الفارقية وجدوى بيداغوجيا الخطأ والصواب وأسس بيداغوجيا المجموعات، وعناصر البيداغوجيا الفرقية. إن ما يفعله التلاميذ الصغار دفاعا عن زميلتهم المختلفة، وحماية لها من خطر التعرض لأشعة الشمس طوال فصول السنة داخل وخارج الفصل الدراسي، يهز فرائصها، يطلعها على الخير المتأصل بين حنايا النفوس. يمدها بالأمل الخافت الذي افتقدته. وبالحب الذي تبحث عنه منذ ضباب المراهقة الأولى. ويؤسس لبيداغوجيا انسانية حديثة، لكنها قديمة قدم وجود الإنسان على سطح البسيطة، هي بيداغوجيا المحبة ولا شيء غير المحبة. د. أنديرا راضي