يتفق جميع الخبراء والباحثون في المجال السياسي على أن الشعوبية باتت تشكل تهديدا خطيرا على الديمقراطية في العالم، وأيضا على الديمقراطية الناشئة في تونس، التي تبدو اليوم عرضة اكثر من أي وقت مضى، لمجموعة من المخاطر التي من الممكن أن تهدد استمرارها وديمومتها بسبب ما قد ينجرّ عن دعوات التقسيم والتحريض بين أبناء الشعب الواحد بعنوان القضايا العادلة. والغريب أن خطاب التحريض لم يعد حكرا على الأحزاب المتطرفة، بل بات يأتي على لسان شخصيات سياسية وطنيّة من المفترض أن تتميز بخطاب متوازن ورصين. وكثيرا ما يُنتقد رئيس الجمهورية قيس سعيد في خطابه، خاصة وأنه يتضمّن حزمة من التخوين والتحريض والتخويف دون تسمية الأشياء بمسمياتها. فقد دأب سعيد منذ توليه كرسي الرئاسة على تكرار الخطابات المفعمة بمفردات الترهيب والتخوين والتهديد، مقسّما الشعب بين "نحن وهم"، "هُم" الذي لم يحددهم رئيس الجمهورية ولو مرة بالاسم، رغم حساسيّة منصبه، ما جعل البعض يصفه "بالرئيس المعارض"، وهو مصطلح تم إنتاجه لأول مرة على مقاس قيس سعيد. وتحدث الجامعي حمادي الرديسي في حوار لموقع "عربي 21" عن الشعبوية فقال: "الشعبوية ضد النخب والنخبوية وضد العلماء والمثقفين والإعلام.. والسياسي الشعبوي يبقى دوما في حملة انتخابية.. والشعبويون يضخمون ما يعتبرونه "مؤامرات" ضدهم". وأثار سعيد أول أمس الجمعة جدلا بسبب الخطاب الذي ألقاه بأحد المساجد حي التضامن عقب صلاة الجمعة، حيث اعتبر بعض الحاضرين هناك أنه استعمل منبر المسجد للتعبئة والتحريض، لينتهي خطابه بمناوشات مع أحد المصلين بالمسجد الذي طلب منه عدم تسييس المنبر. وأثارت الحادثة جدلا واسعا، حيث حذر مراقبون للشأن السياسي في تونس من خطورة الخطابات التي تحث على الفتن والاقتتال. وعلّق الباحث الجامعي سامي براهم على الحادثة، ودوّن: "اليوم نجد أنفسنا في حرج أمام هؤلاء الأئمّة مع ما صدر من رأس الدّولة القدوة والمستأمن على الوحدة الوطنيّة والسّلم الأهلي في أحد المساجد من خطاب تقسيم وتحريض ووعيد.. عقبه عنف استهدف أحد المصلّين في حرم الجامع بل في محرابه من طرف الأمن المرافق له مهما كان سوء ما أتاه بحقّه". وتحت عنوان" تسقط قداسة الحاكم" نشر المحلل السياسي الحبيب بوعجيلة تدوينة حذّر فيها من طبيعة الخطاب الذي يتبناه رئيس الجمهورية قيس سعيد، ومن أثاره المستقبلية. وأشار بوعجيلة إلى أنّ الخطر مع الرئيس الحالي قيس سعيد أن مادحيه من أنصار الديمقراطية والثورة سابقا أو من أعدائهما الدائمين حوّلوا الرئيس إلى حوْزة للحقيقة والقيمة، فتحول كل اعتراض عليه إلى اعتراض على قداسة مطلقة. وقد ساهم في تدعيم هذه الصورة. وضع الاستقطاب الإيديولوجي الذي يجعل كل خصيم للنهضة قبّة مقدسة يخشى كل معترض عليه أن يتهم بأنه حليف للنهضة، وفق تعبيره. وكثيرا ما يحتجّ مناصرو قيس سعيد من سياسيين وإعلاميين ومدوّنين بحجم الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات بنسبة 72 بالمائة ما يعادل نحو مليونين و780 ألف صوت، وهي نسبة عالية قال رئيس الحكومة المستقيل إلياس الفخفاخ في فيفري 2020 إنّه سيستند إليها في تشكيل حكومته، باعتبارها نسبة تمثل شرعية من اختاره. لكن المؤرخ محمد ضيف الله دعا، في مقال بجريدة "الزراع" الالكترونية، إلى تنسيب هذا الحجم، وذكّر بحقيقة الأرقام الانتخابية في الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية: "كثيرون لا يفتؤون يذكرون بشعبية قيس سعيد بحصوله على 72 بالمائة من أصوات الناخبين وأن عدد ناخبيه بلغ مليونين اثنين و778 ألف ناخب. والأكيد أن تلك الحجة نفسها هي التي تجعله يصدح في كل مرة بأنه هو الرئيس وحده ولا رئيس غيره. فإن كان قيس سعيد لم يقرأ تلك النسبة على حقيقتها فهذا إشكال حقيقي، لأن أغلب الناخبين لم يصوتوا له قناعة ببرنامجه أو تجاوبا مع خطابه الانتخابي، وإنما لأنه في مواجهة مع من تعلقت به تهم فساد. بمعنى أن الحجم الحقيقي لشعبيته لا نجده في ناخبي الدور الثاني، وإنما في الدور الأول. وهؤلاء بلغت نسبتهم 18.40 بالمائة فقط أي أقل من خمس الناخبين، ويبلغ عدد ناخبيه 620 ألف صوت، أي 8.7 بالمائة من المسجلين. وهذه النسبة لا تدل على شعبية ساحقة، هذا إذا افترضنا أنهم حافظوا على ثقتهم فيه بعد مرور ما يزيد عن سنة على انتخابه". وكتب بوعجيلة متوجها لقيس سعيد: " سيدي الرئيس أنت بهذه الصورة التي عليها خطاباتك وطبيعة أنصارك تهديد للحرية ومشروع استبداد أفلَ". بدوره أشار المحلل السياسي صلاح الين الجورشي إلى أن نتائج نزول قيس سعيد إلى الشارع لم تكن في صالح رئيس الجمهورية. وقال الجورشي في مداخلة له على قناة "حنبعل": "التونسيون لم يطلبوا من رئيس الجمهورية الجلوس في المقاهي لكنهم طلبوا منه أن يحل مشاكلهم وأن يلعب دورا في تنقية الأجواء وأن يأخذ قرارات مهمة لتوسيع دائرة علاقتنا في الخارج وأن يتجول ويحضر في المؤتمرات الدولية وينسج علاقات تعود بالفائدة على تونس". ويشير حمادي الرديسي إلى أنّ الشعبوية نجحت في بعض البلدان ولكن فشلها ينذر بالخطر. وحسب رايه فالشعبوية أنواع "رجب طيب أردوغان ودونالد ترامب وبوتين زعماء شعبويون لكنهم سياسيون حققوا مكاسب كبيرة لشعوبهم. وشعبويتهم ليست عقيمة مثل شعبوية بعض ساسة تونس والدول العربية.. وإلى حد الآن لم تقدم شعبوية الرئيس قيس سعيد وغيره من الشعبويين التونسيين أي مكسب للبلاد ، والشعب أصبح يعتبر أنهم خدعوه.. أما إذا لم ينجزوا شيئا يذكر فسوف تنهار الشعبوية. وقد يكون رد الفعل عنيفا ضدهم. ويتورطون في صنع أعداء خطرين داخل النخب والبلاد. في هذه الحالة سوف يصبح بعض أنصارهم وخصومهم السابقين أعداء شرسين لهم".