مواطنون في السرّاء.. أمّا الضرّاء فلا!.. نصرالدين السويلمي ها قد سمحت المرحلة الانتقاليّة التي تمرّ بها تونس للذين يفتقرون إلى أبسط أبجديّات الأخلاق بالانحدار إلى مستوى الفعل المخجل والقول الفاحش معتمدين على ارتخاء القانون في لحظات انتشاله من دولة القمع إلى دولة المؤسّسات، وها قد استغلت هذه الوجوه مرحلة تمرّ بها بلادنا من شرعيّة الدبّابات إلى شرعيّة الصناديق وما تتطلّبها من مقاربات وتوليفات بعيدة عن صرامة القانون وحرفيته ، ففتحت الخزان وطفح الكبت، وفاضت أفواه هؤلاء وأفعالهم بأشياء يستحي منها الحياء وأخرى مبهمة مكلّسة تبدو حسنة في منشأها تمكّن القبح منها لاحقا بحكم خنقها وحصرها وأحاطتها بالتكتّم والتنكيس. لقد اتضح أنّ الاستسلام الكلي لدولة الفساد والجنوح إلى سياسة الرضا الذليلة والتوسّع في طاعة القمع والمبالغة في ابتلاع الرأي وحشوه غصبا داخل الأفئدة سينتج حالة موبوءة عند انخلاع الدكتاتوريّة، وحين ينقشع الطغيان ويشرع الشعب في تشييد دولته سنكون أمام طرفين متنافرين متناقضين، هذا طرف آراؤه وأفعاله ومواقفه خاضعة باستمرار للتهوئة طرف متعوّد على القول والجهر وهو الآن بصدد توسيع جرعات جرأته واستكمال حقّه الذي نجحت دولة القمع في تقليصه، أمّا الطرف الثاني فهو ذلك الذي تعوّد على سياسة البلع والابتلاع، يبتلع أفكاره وآماله وكرهه وحقده وذلّه واستمراءه واسترقاقه ..ويبلع عوضها مال وأرض وعقار وجرار وأسمدة واسمنت، كل هذه العناصر التي تراكمت إذا أضفنا إليها عامل الزمن وانعدام التهوئة ستتكلّس وتتعفّن وتتداخل حتى إذا انقشع الرقيب وتنحّى الخوف والحذر وهيمن الأمن ، فار المكبوت وتقيأت بعض الأطرف على شعبها ما كتمته لعقود، ولو خفّفوا من جرعة رعبهم وجبنهم وتسلّحوا بجرعات بسيطة ضئيلة من الشجاعة وفتحوا أفواههم أيام المخلوع ولو لحين لخالط بعض الأوكسجين موائدهم الجوفيّة ولخفّف من هذه الروائح الكريهة والمواد المتعفّنة التي ما فتئوا يمجّونها من أفواه أبخرت من فرط إغلاقها، خاصّة أفواه بعض النخب التي امتنعت عن الذهاب حتى إلى طبيب الأسنان في عهد المخلوع خوفا من شبهة فتح الفم. من المعلوم للعامّ والخاصّ أنّ تلك الأجسام التي كانت واقفة في وجه الطاغية والتي إذا قال قالت وإذا أغلظ أغلظت حاولت مع بداية الثورة أن تعذر أولئك الذين تعرّفوا للتوّ على حريّة التعبير وأن تتركهم يتنعموا بهذا العالم الفسيح الذي سمعوا وقرأوا عنه ما تيسر بتردّد يشبه تردّد الصغار حين يسرقون قطع الحلوى “مع نزع خاصيّة البراءة”، لكن من المؤكّد أنّ أولئك المخلّفون الذين كانوا في آخر القاعة يمارسون الإحباط ويراقبون المشهد بسخريّة ويتلصّصون على المعركة من كوّة الباب قد أخطأوا في فهم الإشارات الإيجابيّة لصفوف النضال الأولى التي وقفت لأكثر من عقدين في وجه الطاغية حين تناست ماضيهم المخجل وارتقت بهم إلى مستوى الشراكة، لقد اعتقدوا أنّها ليست دعوة لتقاسم الأدوار وإنّما هي دعوة لتبادل الأدوار، يتأخر فيها المناضلون بعد أن انتهت مهمّتهم ويتقدّم فيها الطابور الخامس لتصدّر المشهد، هذا ما يجعلهم يقعون في ما وصفوا به غيرهم من اعتماد منطق القبيلة والمجتمع الذكوري، ذلك المجتمع الذي يخرج فيه الرجال إلى القتال يخالطون الموت والجراح والدماء ثم يلقون الغنائم تحت أقدام النساء، وتغمد الأيادي الخشنة سيوفها وتستل الأيادي الناعمة دفوفها. يا أيّها المخلّفون، يا أبناء الثورة المضادّة إنّنا في عصر المساواة والشراكة، ومهما يكن فنحن أبناء وطن واحد وإن لم يكتب الله لنا أن نلتقي في ساحات النضال فلا أقل من أن نلتقي في ساحات السياسة النظيفة رغم أنّنا نعلم جيدا أنّه لو عاد الطغيان لعاد الجبناء إلى جحورهم واستداروا كهيئتهم أول مرّة، كيف لا وقد عرفوا بقدرتهم العجيبة على التعايش مع الذلّ.. ومع ذلك يا انتم سيصبر الشعب عليكم بقدر صبركم على الدنيّة.