عرفت المجتمعات العربية الإسلامية بعد ثورات الربيع العربي تصاعدا لافتا للتيّارات السلفية و ظهور فسيفساء من الأصوات المنتسبة للخطاب الديني الذي أصبح ينطق باسمه من هبّ ودبّ ممن لا يعرف لهم علم ولا أثر مكتوب ولا شهاده علميّة…. بل دخل على الخط أقوام من الأميين يتكلمّون في الدّين بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، يعرضون الخطاب الديني عرضا لا يتجاوز في أحسن الأحوال استرجاع بعض المعارف القديمة بخصوص مسائل تدخل في فرعيات الفرعيات يقدّمها هؤلاء دون دراية ولا رويّة ولا تمحيص باعتبارها من أصول الدين ومن القضايا الحيويّة ويسمحون لأنفسهم بتصنيف خلق الله على أساس موافقتهم أو مخالفتهم في ما يرونه بشأن هذه المسائل …. وغالبا ما يولّد هذا التصنيف إدانة للمخالف كمقدّمة لممارسة العنف إزاءه والملاحظ أنّ بعضهم وجد في الانتساب إلى الدين والعلم الشرعي وفي ” التمشيخ ” مطيّة للظهور وطلب الصّيت و ربّما للزعامة وجمع الأتباع وصناعة المجد….وكم يكون هذا الأمر جناية على الدين ومبادئه والعلم وقواعده والمجتمع وتوازنه وعلى أرض الواقع أصبحت الغلبة أسلوبا معتمدا في الاستحواذ على بيوت الله واتخاذها منطقة نفوذ ” تبشيريّ “… حتى صار من الممكن استعارة تصنيف الماوردي في كتابه “الأحكام السلطانية” الإمارة إلى نوعين: “إمارة استكفاء ” وهي القائمة على الكفاءة و ” إمارة استيلاء” وهي القائمة على الغلبة والقوّة للحديث- في أيامنا – عن مساجد الاستكفاء ومساجد الاستيلاء وهذا الوضع يؤشّر على أنّ الخطاب الديني تحوّل في فترة ما بعد الثورات العربية إلى ما يشبه ” السوق الحرّة” التي يعرض فيها من شاء بضاعته خارج نطاق الالتزام بالمواصفات….والمواصفات في هذا السياق علمية وأخلاقية….ولا صله لما يحدث في هذه السّوق بحرية الرأي والتعبير كما قد يبدو ….. بل الأمر يتعلّق بالتخصّص والكفاءة العلمية وأن يتولّى كلّ أمر أهله إنّ الخطاب الدينيّ – كي لا يكون كالتّي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا – يحتاج في هذا المنعطف التاريخي الحاسم الذي تمرّ به مجتمعاتنا العربية الإسلامية إلى عملية نقد ثقافي عميق لثقافتنا الإسلامية التقليدية ينهض بها أهل العلم من أولي النظر السّديد في فهم الرسالة الإسلامية والتمكّن من معرفة مقاصدها الإنسانية والحضارية والتشبّع بالمناهج العلمية الحديثة من أجل تحويل المناويل والأنساق الفكرية التقليدية في العقيدة والكلام والفقه وأصول الفقه والمقاصد والتصوف والسياسة الشرعية والمرويات إلى ورشة بحث عميق يروم تخليص الخطاب الديني من آثار الهزيمة النّفسية إزاء الحضارة والتاريخ ومن الأحمضة الرديئة التي تسرّبت إليه وكانت وراء شيوع ذهنية الجمود والتعصّب والعنف وإيثار ” الوجبات الفكرية الجاهزة” على البحث والاجتهاد والابتكار المعرفي في سائر مجالاته من جانب وإمداده بآليات منهجية ومعرفية جديدة ترفّع من قيمة آدائه الحضاري وتمكّنه من أن يدخل في مجري التاريخ بثقة و على بصيرة من جانب آخر وليس كالسياقات التاريخية التي تمرّ بها مجتمعاتنا قادح للقيام بهذه المهمّة الثقافية والحضارية الجليلة التي تعيد للخطاب الديني عافيته وتوازته ونضارته باعتباره خطابا منبثقا عن رسالة جاءت للحياة تعطيها ما يقدّمها ويجعلها أفضل وأجمل وجاءت للإنسانية تعطيها ما يرفع شأنها ويجعلها أسمى وأقوم وقد أصبح من الضّروري للخطاب الدّيني اليوم أن يستضيء باللّحظات التّنويرية في الفكر الإسلامي( عبده وإقبال وابن عاشور وابن نبي وشريعتي وغيرهم) وأن يتّخذها نقاط ارتكاز لإعادة تشكّله من جديد في ضوء ما ذكرنا آن الأوان أن يتخلّص الخطاب الديني من مساره الارتكاسي و من نزوعه السّلبي إلى المواقع الفكرية الخلفية النّابعة من الإسراف في تقديس الماضي والمبالغة في تعظيم القدامى واعتبار أفكار السابقين أعمق في فهم الدين و أقدر على سبر أغواره….آن الأوان أن ندرك أنّ هذه الذهنية الاسترجاعية هي سبب خروج مجتمعاتنا عن مجال تنشيط الحركة الحضارية لأنّها ذهنية تؤسّس بوعي أو بغير وعي للإعاقة الحضارية وتسلّم بأنّ مسار تاريخنا تراجعيّ بطبعه بناء على وهم أنّ الماضي من الوجهة الإسلامية أفضل من الآتي وأنّ السّلامة في الاتّباع لا في الابتداع…. مغلّقة بوّابات البحث ومتنكّبة عن سبيل الإنتاج المعرفي والاستزادة من الجديد المتجدّد ممّا تصل إليه الحكمة البشرية في كل يوم….. وهذا من أخطر ما يصيب مجتمعا من المجتمعات أو أمّة من الأمم لأنه يحشرها في منطقة ” التسلل الحضاري” ويفرض عليها مقام الذلّة والمسكنة الحضارية المترتّبة على الحاجة للآخر القويّ في الصّغير من الأمور والكبير… وربّما آلت نهبا للقوى الكبرى على خلاف ما ارتضاه الله جلّ وعلا من العزّة لعباده المؤمنين والمناعة للمجتمع الإسلامي وعلى المؤسّسات العلمية المختصّة رسمية ومدنية أن تعدّ العدّة للنّهوض بالدور المنوط بها في هذا الغرض الجليل…… وعلى العلماء والمفكّرين المسلمين أن يصدعوا برأيهم و أن يتحمّلوا مسؤوليتهم الجسيمة في إيفاء هذه المهمّة الخطيرة القدر المستحقّ من الجهد و العناية والمتابعة…. من أجل التأسيس لزمن إسلامي جديد يدخل المسلمون بمقتضاه دورة تاريخية جديدة من الفعل الحضاري المثمر يتحوّل به حالهم خصبا بعد جدب و عزّا بعد انكسار ومجدا بعد انهيار د.جمال درويل