قد لا تجد بلدا واحدا في هذا العالم يصطفّ فيه الناس نُخبا وعوام على قاعدة موقفهم من قانونهم للأحوال الشخصية مثلما يحدث في تونس، ويذهب بعض الباحثين في العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية أن هذا القانون في بلادنا ليس قانونا ” عاديا ” ولا حتى قانونا ” أساسيا” وإنما هو بمثابة ” الدستور الحقيقي للتونسيين” على حد تعبير البروفيسور عياض بن عاشور، وتذهب سناء بن عاشور [شقيقته] إلى أن الدستور التونسي الصادر في 01 06 1959 قد جاء مخالفا لأحكام “الأحوال الشخصية” ومنطقها وروحها… كأنما القانون العادي هو الأصل والقانون الدستوري فرع عنه ؟؟؟ ، وهو لعمري موقف حريّ بالقراءة والتأنّي،والاستغراب أيضا، خصوصا وأنه يصدر عن اثنين من أهم وجوه رجال القانون والمجتمع المدني ونسائه.… ويذهب الأستاذ محمد كرّو من جهته إلى أن هذا القانون كان في مشروع بناء ” الدولة الوطنية ” بمثابة “حجر الزاوية” … وورِثت النخب الوطنية،السياسية والاجتماعية والعلمية وحتى الدينية، هذا الإرث كابرا عن كابر،وبات هذا القانون “البقرة المقدسة” وشرط القبول في المنتظم السياسي والعمومي التونسي لمن أراد الانخراط في المجال العام، ومن اقترب منه ناقدا أو منتقدا فقد حكم على نفسه بالموت الزؤام، وأصبح الجميع يتنافسون على التودّد لتلك “البقرة”؟ وبدل أن نكون بصدد رؤى مختلفة، ومناهج متفاوتة في تقدير ذلك القانون وتقييمه على أرض الواقع من حيث وفاؤه لما جُعِل له، ومن حيث تحقيقه ل”حرية المرأة” ول”استقرار” الأسرة،كما بشّر بذلك النّص المؤسِّس، بتنا لا نرى سوى المزايدة بين “أنصاره” المفترضين و”خصومه” المفترضين؟ حتى ليكاد الأمر يصل إلى تبادل للأدوار والمواقع؟.… … فما هو السبب الحقيقي في تبوّؤ هذا القانون لمكانة “فوق قانونية” وحتى “فوق دستورية”… وكيف يمكن النظر إلى ذلك من وجهة نظر قانونية وسياسية وحداثية، وما مفاعيل هذا القانون في حياة التونسيين عموما، وحياة الأسرة التونسية خصوصا ؟؟؟ … أولا : قانون الأحوال الشخصية “: مكسب حداثي،أم اجتهاد زيتوني صميم؟؟؟أو …الكذبة الكبرى مارست “الدولة الوطنية المستقلة” سياسة القصف الإعلامي والثقافي المركّز والممنهج في سبيل حمل “الرعايا” على اعتناق “دين الدولة” الجديد المتمثل في توجهاتها “الحداثية” وعلى رأسها مسألة المرأة أو مسألة المسائل كما يقول أحد الباحثين، وليس ذلك فقط، فقد لا يكون ذلك مناط خلاف كبير، وسوف نأتي إلى ذلك في حينه،وإنما الخلاف الحقيقي حول “حقيقة” القول إن بورقيبة ودولته الجديدة هو من حرّر المرأة، حيث سوف يستأثرفي كل الأدبيات بهذا الرصيد الرمزي المهم،إذ أوصى الرجل أن يُنحَتَ على قبره عبارة ” الحبيب بورقيبة،باني تونس الحديثة ومحرّر المرأة”…فكأنما “المرأة”،بما هي “مسألة”، قد وُلِدت علي يديه، فهل هذا صحيح تاريخيا ؟؟؟ … يعلم الكثير من الباحثين بتلك المحاضرة الشهيرة التي قامت بها السيدة التونسية المسمّاة مَدامْ منشاري في البالماريوم في 1929، والتي دعت فيها ب”أعلى صوتها” وفي خطوة جريئة وسابقة إلى نزع حجاب المرأة، وسفورها، وقامت هي،طوعيا، بالمناسبة بنزعه أمام الملأ،وذلك قبل أن تطلع علينا “التلفزة الوطنية”،لمّا كانت بالأبيض والأسود،بصورة “المجاهد الأكبر” الحبيب بورقيبة، وهو ينزع بيديه غطاء رأس سيدة تونسية،[ وهو سفساري تونسي بالمناسبة وليس "خمارا"]أمام أعين التونسيين،بطريقة مُمسرحة وادعائية واستفزازية.… أما ما يعلمه التونسيون وغير التونسيين أكثر، فهو الكتاب المَعلَم الذي كتبه “أب المرأة” حقا،الطاهر الحداد،كما يصفه الباحث والحقوقي رضا الأجهوري،وهو الكتاب الذي أسّس ونظّر وهيّأ لما سوف يُسمّى [المشروع البورقيبي] للمرأة والحداثة…ومن سخرية القدر أن الرجل اضطُهِدَ أشد اضطهاد،ومات حزينا،وحيدا، ولم يسانده ذلك الذي سوف يستولي على إرثه و”عرشه” ويبني “مجده” على روح كتابه،الحبيب بورقيبة، بل إن هذا الأخير امتنع حتى عن التوقيع على عريضة تضامنية تم توزيعها على نخبة من المثقفين آنذاك،ووقّع عليها نيفا وثمانين شخصا…؟؟؟ حقا تُغتالُ الذاكرة في تونس، وتُنتَهك المعرفة… هكذا إذن نتبين،بالوقائع والآثار التاريخية، أن “المرأة” وُلِدت قبل “مُحرّرها” بأكثر من ربع قرن، ونتبيّن أيضا أن “شهادة الميلاد” التي يتمّ على أساسها إشرابنا أن “الدولة الوطنية” هي التي حرّرت المرأة، هي شهادة مزوّرة، وجب إعدامها قانونيا وتاريخيا واعتماد الشهادة الصحيحة القائلة بأن المرأة التونسية ليست فقط وُلِدت في بداية القرن العشرين،كما كنّا نشير، ولا في 1956، كما يسوّق المُزوّرون، وإنما قبل ذلك، وفوق ذلك،وُلِدت في القيروان الأغلبية منذ ألف عام،أو تزيد،عندما اهتدى الفقه في ذلك الزمن على يد الإمام سحنون رحمه الله،إلى أنه بإمكان المرأة ومن حقها منع زوجها من التزوّج عليها؟؟؟،واشتهرت تلك الفتوى وعُمِلَ بها في الآفاق، حتى وصلت الأندلس البعيدة. ………. وقد تزوّج جعفر المنصور،وهو من هو، من قيروانية اشترطت عليه ما سوف يشترطه بورقيبة بعد ألف عام، وأرغمته تلك القيروانية،العزلاء،على احترام شروطه، ومنعته من نكث عهده والتّزوّج عليها،فيما يذكره محمد الطالبي في “الدولة الأغلبية”…ولم يتزوج [عليها] إلا بعد أن “حرّرته” منها المنيّة.. …كما إن الزيتونيين كانوا أسّسوا اتحادا نسائيا لبناتهم ونسائهم وعموم التونسيات قبل ذلك الاتحاد الذي أسّسه حزب بورقيبة، [وكان يقول عنه إذا اختلف مع القائمات عليه،وخصوصا راضية الحداد: "أنا رئيس اتحاد النساء"]….وكان من بينهنّ قريبات بورقيبة،سعيدة ساسي وشادلية بوزقرّو، وصديقته [ثم زوجته ثم طليقته التي لم تشفع لها ولا لماتيلد الفرنسية مقتضيات قانون الأحوال الشخصية] وسيلة بن عمار،إلى جانب اتحاد آخر،ذي هوى شيوعي… … الآن وقد تحررت المعرفة من إسار الدولة، على الباحثين أن يراجعوا تاريخنا القريب والبعيد،وأن يبحثوا عن دعم المرأة والرجل والأسرة مجتمعين،لا متناكفين،ومن خلال تاريخنا وفي أحضانه، وليس عبر الالتباس والاقتباس المرَضي،واستحكام مركب النقص الأثيم،والهوَس…… يتبع صالح مطيراوي 26 10 2011