نشرت جريدة القدس العربي حوارا مع المؤرخ التونسي هشام جعيط جاء فيه ما يلي : -هذا المعجم التاريخي أخذ مني عشرين سنة وهو ليس بالأمر السهل، فقد قرأت مئات الكتب والمصادر، ودققت الأمور عن كثب لكي أتوصل إلى الكيفية التي كون بها الرسول «الأمة» أي الاعتماد على الرابط الديني لتكوين جماعة متضامنة وتجاوز الخلافات القبلية. ودرست عن كثب علاقة الرسول بيهود المدينة. فالفكرة الأساسية التي أردت التركيز عليها هي ان الرسول في المدينة لم ينجح من أول وهلة في مهمته، بل وجد صعوبات كبيرة، إذ كانت له سلطة معنوية فقط. وبعض المؤرخين الكبار يقولون انه كون دولة من أول وهلة وهذا غير صحيح، إنما شيئا فشيئا وعلى مراحل ضم إليه كل أهل المدينة في صراعه الأساسي وهو صراع بالخصوص ضد قريش أي ضد قومه الأصليين، ودخل في مراحل من الصراع الحربي لأنه اعتبر بعد تجربته الطويلة في مكة، ان القرشيين الذي كان لهم وزن في المنطقة والعرب بصفة عامة، لن يدخلوا في الإسلام أبدا إلا إذا فرض عليهم. إذن اعتبر الرسول ان العرب لا يؤمنون إلا بعلاقات وموازين القوى، وبالتالي توجه سلوكه نحو محاربة «قريش» والعرب بصفة عامة، وإجبارهم على الدخول في هذا الدين عن طريق تكوين سلطة عسكرية ومالية بتدرج. -الكثيرون لا يقرؤون تاريخهم وحتى المثقفين لا يهتمون بدراسة المجال الديني من نواحي أنثروبولوجية واجتماعية. هنا أريد ان أشدد على أهمية دراسة الدين الإسلامي وظروف نشأته وبداياته والمجتمع الذي جاء فيه وكيف أصبح بعد ذلك «ثورة حقيقية». -ما يحصل أعتقد أنه حركية تاريخية وليس مسألة صراع حضارات، وفي الحقيقة ليس هناك الآن حضارات، بل هناك حضارة موحدة – ان أمكن ان نسميها كذلك – مرتكزة على أمور أخرى مثل التكنولوجيا والمال وما يتبعهما من فساد. فالفساد أصبح عالميا وبنسب ودرجات متفاوتة. -استقرار فكرة الدولة الوطنية منذ فترة الاستقلال في العالم العربي، شكل اللبنة الأساسية للصراعات بين الدول التي كانت تربطها سابقا فكرة الدولة القومية. -كان العالم العربي مستعمرة كبرى مهيمن عليها وصارت متأخرة في مسار التاريخ. -الدولة، الأمة قويت حتى في بلدان كانت في الماضي متأخرة جدا مثل السعودية وممالك الجزيرة العربية. فالدولة الوطنية على منوال الدول الأوروبية صارت مترسخة أكثر، وهذا ما يفسر إلى حد كبير الاضطراب الحاصل والابتعاد تماما عن الفكرة القومية التي دعا إليها جمال عبد الناصر وأحزاب البعث وغيرها. -أنا شخصيا أتألم من كون المثقفين العرب والمسلمين بصفة عامة ما زالوا متأخرين فكريا وعلميا. -لعل هذه الشعوب لم تكن مستعدة للدخول في الديمقراطية ولهذا أخفقت الثورات العربية. -تونس اليوم في فترة انتقال وحافظت على هذه الفكرة إلى حد الآن مع كثير من الاضطراب، لان الشعب التونسي في أغلبه غير متعود على هذا المنوال من السياسة الديمقراطية وحرية التظاهر والتعبير وغير مستعد لها. وأيضا حتى في مسار أوروبا عرفت «الديمقراطية» هزات متعددة ولم تترسخ إلا في آخر المطاف بعد ان دُمرت النازية الألمانية والفاشية الايطالية، وحتى بعد ان سقط الاتحاد السوفياتي الذي لم يكن يعرف الديمقراطية السياسية. -كل ما يمكن ان أبعثه كرسالة، ان تونس يجب عليها ان تحافظ على المكسب الديمقراطي مهما كلف ذلك من متاعب اقتصادية واجتماعية، لان المتاعب الاقتصادية والاجتماعية ستحل بطول الزمن. لان الديمقراطية يجب ان تتزامن مع نمو اقتصادي ويلزمها مسار، نحن بدأنا وما زالت الخطوات. -الرسول لم يمح الحج مثلا والذي هو مؤسسة جاهلية وإنما أعطاه معنى جديدا. فالحج إلى عرفة كان في الجاهلية طقسا من طقوس عبادة الشمس، إنما الرسول أعطاه معنى آخر وجعله متجها فقط نحو الإله الأوحد أي الله، ومسح كل ما له علاقة بعبادة الشمس. -الحج كان مراحل، الحج ومزدلفة ومنى، الرسول أبقى على مؤسسة النحر التي نسميها «الأضحى» وإنما في الواقع جعلها كواجب يدخل في العطاء للفقراء أي مسألة أخلاقية فقط. كما انه زاوج بين الحج إلى عرفة ومزدلفة وبين العمرة التي كانت مؤسسة أخرى متباينة عن الحج تقام في مكة بالذات، وهي مؤسسة محلية مكية قرشية بينما الحج مؤسسة بدوية. -الرسول أبقى على مؤسسات قديمة جاهلية وحولها تحويلا جذريا. وهذا درسته واهتممت به. -الحجاز كانت لها شخصية دينية وكل هذه الرقعة التي تبتدئ من يثرب وتمتد إلى مكة ثم إلى الطائف، وما حولها وما بين مكةوالطائف، كانت رقعة مفعمة بالمقدسات الجاهلية التي يسميها القدماء «دين العرب» أي لها خصوصية دينية عربية وتغذي الهوية العربية بالخصوص في تلك المنطقة. -دعوة الرسول لم تقم على فرض إله جديد، إنما قامت على التوحيد أي إبعاد كل الآلهة الأخرى وعدم الاعتراف بها. -القرآن يدخل في المسار التوحيدي ولكنه يتجاوزه وهذا ما عبر عنه بكلمة «المهيمن» والتي لا تعني المسيطر كما تطورت الآن الكلمة – إنما يعني انه في الوقت نفسه يعترف بالكتب التوحيدية المقدسة التي جاءت من قبل ويضمنها أي يعطيها ضمانة ويتجاوزها في الوقت نفسه، أي يعطيها آخر صورة لكل هذا المسار التوحيدي الذي له آلاف السنين.