أريانة: تعزيز شامل للمؤسسات الصحية بالتجهيزات الحديثة والإطارات الطبية    عاجل/ إيران: الليلة.. هجمات شرسة ضد اسرائيل بأسلحة حديثة ومتطوّرة    كأس العالم للأندية: التعادل يحسم مواجهة فلومينينسي البرازيلي وبوروسيا دورتموند الألماني    ملتقى تونس الدولي لألعاب القوى: التونسي بشير عقوبي يفوز ببرونزية سباق 1500 متر    الليلة: طقس قليل السحب والحرارة تتراوح بين 23 و33 درجة    عاجل/ ترامب يتّجه للمشاركة في حرب إيران وضرب هذه المنشأة النووية    وزارة التجارة تدعو تجار التسويق والترويج عبر قنوات التوزيع الالكترونية إلى اعلام المستهلك بتفاصيل العروض المقترحة    ضاحية مونمارتر تحتضن معرض فني مشترك بين فنانة تونسية وفنانة مالية    صفاقس: تنظيم يوم الأبواب المفتوحة بمركز التكوين والتدريب المهني بسيدي منصور للتعريف بالمركز والإختصاصات التي يوفرها    "عليسة تحتفي بالموسيقى " يومي 20 و 21 جوان بمدينة الحمامات    باجة: اعادة اكثار واحياء قرابة 5 الاف صنف من الحبوب بنجاح    الدورة الأولى لتظاهرة "لقاءات توزر: الرواية والمسرح" يومي 27 و28    حياتي في الصحافة من الهواية الى الاحتراف    اصدارات جديدة لليافعين والاطفال بقلم محمود حرشاني    شنيا الماكلة اللي تنفع أو تضرّ أهم أعضاء بدنك؟    الملعب التونسي يعزز صفوفه بالحارس نور الدين الفرحاتي    الاتفاق على احداث لجنة قيادة وبرنامج وطني لتفعيل "إعلان قرطاج" للصحّة الواحدة    إيران تعتقل عميلا للموساد الإسرائيلي    تحذير طبي: خطر الاستحمام بالماء الساخن قد يصل إلى الإغماء والموت!    المنتخب التونسي يشارك في بطولة افريقيا للرقبي السباعي بالموريس يومي 21 و 22 جوان الجاري    منوبة: فتح الجزء الثاني من الطريق الحزامية " اكس 20 " بولاية منوبة    قفصة : حلول الرحلة الثانية لحجيج الولاية بمطار قفصة قصر الدولي وعلى متنها 256 حاجا وحاجة    الجزائر تؤكد دعمها لإيران وتدين "العدوان الإسرائيلي"    تونس ترشّح صبري باش طبجي لقيادة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية    المائدة التونسية في رأس السنة الهجرية: أطباق البركة والخير    طائرة تابعة للخطوط السعودية تغير مسارها بعد تهديد بوجود قنبلة    بُشرى للفلاحين: انطلاق تزويد المناطق السقوية بمنوبة بمياه الري الصيفية    عاجل : ''طيران الإمارات'' تمدد تعليق رحلاتها إلى 4 دول    الحرس الثوري: استهدفنا مقر الموساد في تل أبيب وهو يحترق الآن (فيديو)    تعرفش علاش الدلاع مهم بعد ''Sport''؟    الدورة 12 من الملتقى الوطني للأدب التجريبي يومي 21 و 22 جوان بالنفيضة    الصين تتهم ترامب ب"صب الزيت على النار"    هيونداي 9 STARIA مقاعد .. تجربة فريدة من نوعها    موعد إعلان نتائج البكالوريا 2025 تونس: كل ما تحتاج معرفته بسهولة    مطار طبرقة عين دراهم الدولي يستأنف نشاطه الجوي..    عاجل/ آخر مستجدات أخبار قافلة الصمود لفك الحصار على غزة..    تحويلات التونسيين والسياحة تغطي أكثر من 80٪ من الديون الخارجية    6 سنوات سجنا لنائب سابق من أجل الإثراء غير المشروع    أبرز ما جاء في لقاء رئيس الدولة بوزيري الشؤون الاجتماعية والاتصال..    الحماية المدنية : إطفاء 192 حريقا خلال ال 24 ساعة الماضية    بعد السقوط أمام فلامنجو... الترجي في مواجهة هذا الفريق بهذا الموعد    دورة برلين للتنس : موعد و توقيت مباراة أنس جابر و باوليني    عبدالله العبيدي: إسرائيل تواجه خطر الانهيار وترامب يسارع لإنقاذها وسط تصاعد الصراع مع إيران    عاجل/ رئيس الدولة يفجرها: "لا أحد فوق المساءلة والقانون..ولا مجال للتردّد في إبعاد هؤلاء.."    عدد ساعات من النوم خطر على قلبك..دراسة تفجرها وتحذر..    كيف سيكون طقس اليوم الثلاثاء ؟    كأس العالم للأندية: الترجي الرياضي ينهزم أمام نادي فلامينغو البرازيلي    كاس العالم للاندية : التعادل 2-2 يحسم مباراة بوكا جينيور الارجنتيني وبنفيكا البرتغالي    المندوبية الجهوية للتربية بمنوبةالمجلة الالكترونية «رواق»... تحتفي بالمتوّجين في الملتقيات الجهوية    الكوتش وليد زليلة يكتب .. طفلي لا يهدأ... هل هو مفرط الحركة أم عبقري صغير؟    يهم اختصاصات اللغات والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفنون التشكيلية والتربية الموسيقية..لجنة من سلطنة عُمان في تونس لانتداب مُدرّسين    تونس تحتضن من 16 الى 18 جوان المنتدى الإقليمي لتنظيم الشراء في المجال الصحي بمشاركة خبراء وشركاء من شمال إفريقيا والمنطقة العربية    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(غونتر لولينغ) واكتشاف النبي محمد -ص- .
نشر في الوسط التونسية يوم 30 - 05 - 2007

أود الإشارة إلى أن هذا النص يستند على مسّودة لمحاضرة، قدمها باحث الإسلاميات الألماني غونتر لولينغ Günter Lüling في سبتمبر 1985، أثناء مشاركته في ندوة دراسية، أقامتها جامعة كامبرج، وهذه المحاضرة بدورها تلخيص لأهم أفكاره التي سبق له وأن نشرها في كتابين أولاهما (حول القرأن القديم Über den Ur Quran1974) وثانيهما:(إكتشاف النبي محمد ثانية Die wieder Entdeckung des Propheten Mohammed 1981 ) الذين أثارا بعيد صدورهما سخط ورفض واستنكار الأوساط الأكاديمية، ومعاهد دراسة الإسلاميات في أوروبا ، ثم تحوّلا مع مرور الزمن إلى مرجعيّن كلاسيكيين، يُشار لهما بالبنان، خصوصاً من باحثي الإسلاميات في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. ورغم مايؤخذ على الكاتب من شطحات، لكنه امتلك نظرة ثاقبة وإحساساً مرهفاً، مكنّاه من التوغل وبلوغ المناطق المعتمة في ديانات التوحيد واستطلاع لحظات نشوئها. وهذا مثل للبعض، عصيانا وخروجا على الأنماط الأكاديمية والمدرسانية السائدة، مع أنه والحق يقال لم يبتعد قيد أنملة، عن ميدان المدرسة الفيلولوجية الألمانية، وقواعدها الصارمة. وبرأيي المتواضع، فإن إشراقات الرجل، ولمحاته الكتابية تنبع أيضاً من حبه لتراث المشرق العربي وولعه بنسيجه الحضاري، ومن المؤكد أن ولادته في سوريا عام 1928 وسط عائلة تبشيرية، ثم عمله في معهد غوته في حلب، قد منحه فرصة ثمينة للتعرف على مكنونات الشرق وتقاليده ( إضافة للحمص والفلافل ) ومن جهة أخرى شكّل أرضيّة لكراهيته ومقته حضارة الفرد الإستهلاكي.
لقد سعيت إلى تقديم الرجل كما هو، أملا في كسر حلقة الشيطان المقفلة، وفتح آفاق جديدة للرؤية. وآثرت (ما أمكن) أن أقتبس منه أفكارا كاملة، وفق لغته المسهبة، مع إلتفاف مقصود على بعض التعبيرات الحادة، والغريبة عن مناهجنا ولغتنا (المدلسة والمداهنة). وأشير أيضاً إلى أني فتحت أقواساً عديدة، تضمّ بين دفتيّها، مشاركة جديّة، لإشباع النص بوفر من التساؤلات والإيضاحات، والإعتراضات؟ آملا أن لا يرفع أحدَ السيف، ويطالب بتوّبة نصوحة، فالقضية لايمكن إختزالها بإنكار معلوم من الأديان ؟؟ المسألة أكبر من ذلك بكثير؟؟ فتاريخ أديان التوحيد برأي الكاتب أشبه بألغاز!! تختفي وراء بدايات معتمة ومجهولة، وتقبع خلف جدران من الأسطرة، شيدتها الدوغمات الثلاثة، مما سبب إغلاقا لمنافذ الرؤية !! من هنا فإن نظرية لوليغ تقوم أساساً على تلمس تلك الفجوة في الموروث الكتابي والتي يبلغ متوسطها 200سنة، وهي مقدارالزمن الفاصل بين وفاة مؤسس العقيدة، وبين نشوء النصوص المقدسة القانونيةCanon )
ينطلق لولينغ، من أن اليهومسيحية كانت الأساس لنشوء الإسلام، فخلال القرون المبكرة للمسيحية، حدث إنشقاق مهم، أنتج تيارين رئيسيين، أولاهما تيّار إرتبط بالهلينية الرومانية، وقاده بولس الرسول وأثمر عن ولادة الكنيسة المسيحية، التي انقسمت فيما بعد إلى كنائس متعددة، أما التيار الثاني فقد أنتج يهومسيحية كان من أهم ممثليها الطائفة الأبيونية، التي تؤمن بإله واحد، منزّه من الأقانيم الثلاثة، وترفض عقيدة الألوهية ليسوع، وتنظر إليه كأحد الملائكة الكبار الذين إختارهم الملأ الأعلى، وألبسهم الجسد المسيحي لإيصال رسالة الخلاص. ومن أهم ميّزات العقيدة الأبيونية إلتزامها بشعيرة الختان اليهودي، إلى جانب المعمودية، وكذلك التزامها بتقديس يوم السبت ( اليهودي) وبنفس الوقت إدانتها لطقوس تقريب القرابين ( التي تأمر بها الشريعة اليهودية) ورفضها لقانون موسى، والنبوّة ( أود الإشارة إلى أن فكرة النبوّة آنذاك لم تكن تحظى بتقديس، فالنبي كان أشبه بعرّاف قبيلة، لذا نجد التوراة تسرد حكايا عن آلاف الأنبياء، وأحيانا تذكرنا بحروب بين أنبياء البعليم الوثني وأنبياء إسرائيل، لهذا حملت العقيدة المسيحية مشاعر إزدراء واضحة للنبّوة، وفضّلت صيغة المسيح ملك يهوذا والسامرة، ولاننسى أن ملك وملاك نشأتا من جذر لغوي واحد؟؟فقط أردت تعميق هذه الفكرة لنصل مع لولينغ إلى فهم فكرته القادمة عن النبوّة الملائكية أو النبي الملاك، وعلاقتها بالإسلام) وكذلك رفض الأبيونيون الشرائع الباولوسية ( بولس )، وفضّلوا عليها حياة الزهد والتقشف، والمواظبة على طقوس الغسل والصلاة بإتجاه القدس، بعكس الكنائس اليونانية التي إتخذت شروق الشمس اتجاها لقبلتها( والناجمة حسب تقديري عن تأثرهم بعبادات رع المصرية ). لهذا يستنتج لوليغ أن الإسلام المبكر، يحتوي على تأثيرات أبيونية، يمكن تلمسها في أيامنا الحاضرة، خصوصا عند الشيعة والإسماعيلية ، كما ويمكن إثباتها من خلال قصص الموروث المتواترة ( ختان النبي وهو في يومه السابع على يد جده عبدالمطلب، ظاهرة الأحناف وورقة بن نوفل، وظاهرة الشعر الجاهلي الذي استبطن النص القرآني دلاليا ولفظيا كما في أشعار ابن الصلت وعمرو ابن نفيل وزهير وغيرهم، وكذلك الحال استيعاب الشعر الجاهلي مشروع لسان قريش، علما أن معظم الشعراء ليسوا من هذه القبيلة!! وكذلك دلالات اسم والد الرسول عبدالله، وعدد لاحصر من الإشارات التي تدل على وجود تراث يهومسيحي غزير) لكن الأمر الذي، أفزع الأوساط البحثية، تلخص في نظرية لوليغ حول تاريخ الكعبة، واعتبارها كنيسة عربية صغيرة، وكذلك إعتباره اللات والعزى ومناة ، مريمات عربيات، وهبل ( هابيل : صورة ميثولوجية لإله الرعي)
وقد اعتمد لوليغ في تفسيره هذا إلى الموروث العربي نفسه ( تاريخ مكة للأزرقي وغيره ) الذي تحدث عن مراحل عدة لبناء الكعبة، في عهد الزبير وعبدالملك بين مروان، ثم إشارته الذكية إلى الحُجر ( وهو عبارة عن قوس ضئيل الإرتفاع أمام الجدار الشامي، بداخله قبر إسماعيل وأمه هاجر) حيث تؤكد المدوّنات العربية أن بناء الحُجر كان مرتفعا، ومتصلا بداخل الكعبة!! إذ يمكن تصوّره كمذبح للكنيسة المفترضة، ناهيك عن أن الموروث، تحدث عن وجود ستة أعمدة متوازية داخل الكعبة، أتاحت لمصليّ تلك الأيام، أن يوّلوا وجههم صوب المذبح أوالقدس أو الحُجر( حاليا يوجد ثلاثة أعمدة)!! (وفي مقدمة ابن خلدون ص389طبعة دار الجيل هنالك مايؤكد أن الحجاج بن يوسف هدم ستة أذرع وشبر مكان الحُجر، وسدّ الباب الغربي!! وأيضاً لم ينس لولينغ رواية الأزرقي، التي تحدثت عن اللحظة التاريخية لفتح مكة، وذكره قصة صور مريم وعيسى داخل الكعبة، والتي مّسحت لاحقا بإوامر من النبي..وبرغم ما أثارته هذه النظرية، من لغط ، أجزم أن الأمر لايتعدى حدود الإثارة والفضول المعرفي، ولا أظن أن المسيحية، والرئيس المؤمن جورج بوش سيكترث للأمر، لعلمه اليقين أن البترول هو الطريق الوحيدة المؤدية للجنة) أما الأمر الأكثر حساسية، هو دخول السيد لولينغ في واحدة من المحرمات الإسلامية، أقصد بحثه الطويل والمركب في قراءة النص القرآني، وملاحظته للسور القصيرة ( المقفاة شعرياً ) وإعتباره إياها تراتيل وأغاني مسيحية عربية، جُمعت وكوّنت نواة القرآن القديم، بعد إضافات منحتها محتوى ودلالة جديدة، وبرأيه فإن هذا النص دُوّن بداية الأمر بلغة غير منقطة وبدون حركات صوتية، وظل على حاله فترة تصل إلى 150سنة، ثم تعرض بعدها إلى تغيير دوغمائي، استمر حتى نضوج وترسخ مؤسسة الدوغما ونشوء وإكتمال السير النبوية، وبداية ظهور التفاسير في القرن العاشر والحادي عشر ميلادي؟؟
لكن كل هذا الكلام لايمس جوهر الموضوع الحقيقي !! فنشأة وصيرورة النص القرآني تاريخيا، هي من مسلمات البحث الفليلولوجي المعاصر..فما سعى إليه لولينغ، هو فتح ملف مجهول، من تاريخ الدعوة المحمدية: ملف يعتبره الكاتب، جوهر الرسالة، التي عبرت عن نفسها من خلال ذوبان أتباع النبي مع الأبيونيين التوحيدين( الأحناف ) المعادين للصور والنحوت، التي جلبتها مسيحية اليونان ذات الأقانيم الثلاثة، والطقوس الغريبة، أي أن الصدام لم يكن مع قريش الوثنية، بل مع قريش المسيحية التثليثية، وهذا ما أخفاه موروث الخلفاء، وطمسه وغيّبه عبر سياسة تعتيم شمولية، ومسح للذاكرة الجمعية ..إن مشروع محمد لم يكن يقصد إخراج العرب من الوثنية إلى التوحيد الذي مثلته المسيحية واليهودية( أهل الكتاب ) بل كان يقصد الخروج والعصيان على ذلك التوحيد ( المسخ ) والعودة إلى دين إبراهيم وإسماعيل ويعقوب وموسى وعيسى، ( وهنا بيت القصيد ) بمعنى العودة إلى الأصول البدئية الطبيعيةPagan لتراث العرب وديانات الخصوبة الطبيعية التي مثلتها اليهودية والمسيحية المبكرة( والتي تجلّت بصورة داوود وسليمان !! و فكرة الفداء المسيحي، بإعتبارها فداء للقبيلة والعصبة وعلاقات الرحم، ناهيك عن الجذور المثولوجية لقصة المسيح، والتي تعود هي الأخرى لديانات وطقوس مرتفعات الخصوبة الكنعانية، التي مجدت البطولة، وتقاليد القبور وإحياء الموتى، لهذا أعاد الإسلام هذه الفكرة من خلال، عقيدة النشر، وحشر الإجساد في العام الآخر) وهكذا يلخص لولينغ أفكاره في إكتشاف النبي كما يلي : إن عودة النبي محمد إلى الجذر الإبراهيمي هو عصيان وتمرد أمام مسيحية روم هيلينية ذات مشروع كوني ( باولوسي ) يرمي إلى تشييد امبراطوية بروليتارية لأفراد مقطوعي الجذور!!( أي أنها عودة إلى إبراهيم الذي يخاطب الله بدون تكلف، فيحدد له تخوم أرضه ونسله وصلبه. وهذا برأيي من أحد أهم اللمحات الفكرية للولينغ)
أما النقطة الجديرة بالإنتباه، فهي رفض غونتر لولينغ لفكرة الفتوحات الإسلامية السريعة، فمن اللامنطق قبول وتصديق الرواية، التي تتحدث عن مجموعات قليلة من التجار ومربي الماشية، وكيف اجتاحوا بلاد فارس ووصلوا إلى تونس خلال ثلانين سنة، وفي غضون خمسين عاما إلى جبال البيرينيه، وهددوا القسطنطينية، كيف يستوي ذلك مع أخبار نزاعات العرب فيما بينهم وتذابحهم على خلافة الرسول وإشتعال فتنة عثمان وحروب عائشة وعليّ ومعاوية، إن هذه النزعات وحدها كانت كفيلة بإحباط أي مشروع امبراطوري كبير..إذاً لابد لنا من قبول مبدأ التمدد السلمي للعرب ، فالإيمان فقط بعقيدة ما لايحقق إنتصارات وفتوحات، لابد أن اللغة الكتابية العربية قد إزدهرت في وقت ما وسبقت الجيوش ؟؟ ( ببساطة شديدة يمكننا الحديث بهذا المعنى عن فتوحات لغوية كتابية عربية، سحقت لغات وثقافات دبّت بها الشيخوخة، وعن لغة تحوّلت إلى العالمية Lingau Franca واحتلت وحلّت مكان لغة الساسانيين واليهود وبيزنطيي شمال أفريقيا، وعن لغة استطاعت أن تجعل من أبناء الثقافة الفارسية العريقة، أهم معلميها ومبدعيها ونحّاتيها؟ هنا برأيي نجد اللغز الأكبر في نشأة الإسلام!! )
والآن أعود بعجالة لتلخيص لأهم ماورد في محاضرة لوينغ:
يشير الكاتب إلى البحوث اللسانية التي قام بها كارل فولر ولاندبرغ في القرن 19 ودراستهم للهجات العربية، واصرارهم المحق، على عدم وجود عربية فصحى محكية، في الزمن المبكر للإسلام ( عكس ما تزعمه مؤسسة الدوغما)، بداية منهجية، وكذلك يشير إلى سعيهم لإثبات وجود نسخة شعبية للنص القرآني، يُعتقد أنها هُضمت وذابت في اللغة الفصحى. لكنه ينتقد ضمنياً تلك المحاولات، الغير كافية، التي لن تؤدي إلى تحطيم وتهشيم الموديل Paradigmaالدوغمائي المهيّمن ، لذا يقترح تعميق محاولات العالم البروتستانتي البرت شفايتسر وفيرنر واعتماد طريقتهما المثلى في البحوث المسيحية وقدرتهما على تفكيك وتهشيم الموديل المسيحي ، وتعميق دراسات العصور السابقة للدولة، وتمثل قيّم القبيلة ومفاهيم العصبة الدموية ( صلات الرحم ) والثأر وإقراء الضيّف، وتعميقها بمزيد من دراسات الإنتربولوجيا الإجتماعية، وإعتماد تطبيقات أولبرايت W.F Albight على العهد القديم ..ثم ينتقل بعدها إلى واحدة ( من شطحاته التي لم أستطع هضمها؟) والتي منح بموجبها محمد، صفة النبوة الملائكية( نبي ملاك)، وهي صفة تم طمسها فيما بعد!! واستبدالها بحشو قصصي عن الملاك جبريل، ويعتقد لولينغ أن محمد فهم نفسه كملاك يمثل إرادة الملأ الأعلى، دون أن يصرح بذلك وهكذا فهمه أتباعه، تماما كما فعل يسوع الذي فهم نفسه بأنه المسيح المخلص دون أن يصرّح بذلك؟ لذا يخلص لولينغ إلى أن محمد لم يكن بحاجة لجبريل، ويشير إلى أن الآيتين المتعلقة بجبريل 2,97 و66,4 هما من فعل التدوين المابعد نبوي، ويعلل ذلك بسبب إستحالة النبوّة في ذلك المناخ العقلي الثقافي الذي كان مفعما بروح النبوة الملائكية ؟؟؟(وبرغم تعارض هذه الصورة مع ثقافتنا الرائجة، إلا أني أعتقد أن ملامح جبريل تبدو مشوهة في الموروث الإسلامي، بسبب إشكالية التنزيل التي حدثت بصورة شخصانية مباشرة ، وأحيانا بواسطة الإلهام ؟ إضافة إلى تمظهرات جبريل الغريبة كأخ لمحمد، وأحياناً كدحيّة الكلبي أو دوره كسائس يمتطي البراق في قصة الإسراء والمعراج؟ )
أما النقطة المهمة في محاضرته ، فقد تضمنت ردا مسهبا على رأي المستشرق المعروف فيلهاوزن، الذي إعتبر نظام العصبة الدموية( القبيلة) العربية، أشبه بوجود وإدراك عمومي بدون سلطة، وهذا يندرج في إطار التوحش، الغير قادر على الإنتاج والفاعلية ؟؟ ويجد لولينغ أن فيلهاوزن لم يدرك تماما حضارات الخصوبة، لأنه كان مأخوذا بنموذج الدولة الراقية وأسيرا لفكرة الإنتاج والنمو الإقتصادي( وفي مكان آخر يعبر لوليغ عن إعجابه بقانون العقوبات البدوي، ونظام دفع ديّة القتيل، والمصالحة العشائرية، بينما ينظر إلى قوانين الجزاء الحديثة ، كأنها سلسلة من الذنب والعقوبة!!)
إستراحة تاريخية؟
والآن وبعد أن عرفنا بعض آراء لوليغ، أود أن أتجاوز الكثير من أطروحاته، إختصارا لمساحة هذه المقالة ، وأتوقف عند إكتشافه ( المتأخر ) للهولندي راينهارد دوزي R. Dozyالذي أصدر عام 1864 كتابا بعنوان: الإسرائيليون في مكة وفيه يذكر أن إسم مكة، ولغاية القرن الثالث ميلادي، كان يرد في الوثائق القديمة: ماكورابا Macoraba وهو نفس الإسم الذي ورد ذكره مرارا في الأسفار التوراتية : مكا رابا وتعني بالكنعانية : ساحة الصراع أو أرض المعركة، ومن المهم ذكر الحادثة التي ترويها التوراة عن رحيل سبط شمعون، أيام الملك شاوول وداوود، وإقامتهم في أرض الحجاز، ( أحد الإسباط الإثني عشر) كل هذه الإشارات دعت دوزي إلى الإعتقاد أن قصة إسماعيل وهاجر التوراتية هي حشو تاريخي أحدثه مدوّنو التوراة متأخراً لتبرير رحيل آل شمعون، كخروج من المأزق وتخفيف من مشاعر الذل والعار التي لحقتهم، وبهذا فإن نظرية دوزي تقوم على وجود خلط بين شمعيل وشمعون ( تعمدت كتابة اسم إسماعيل : شمعيل لإظهار الفرق الضئيل مع اسم شمعون )
ثم ينتقل دوزي بدراسته إلى إلهين وثنيين، عرفا باسميّ: إساف ونائلة، وهما إلهان انتصبا على مرتفعي الصفا والمروى ( بالقرب من مكة ) ويذكرهما الموروث الإسلامي بكثير من الأسطرة، لكن دوزي يكتشف مفتاحا لغوّيا يؤكد أن إساف بالعبرانية هي آسوف ( مكان لرمي فضلات الذبائح والأحشاء ) ونائلة هي نوالي وتعني( مزبلة ) وبهذ فإن الصفا والمرّوى كانا أماكن لرمي النفايات الناتجة عن القرابين التي كانت تنحر أمام الكعبة المقدسة.. وبعد موت دوزي، توقفت إهتمامات باحثي التوراة، باستثناء محاولة فينكلر و هوميل التي تابعت أخبار العصر التوراتي للملك حزقيا( 715و696 ق.م ) وأثبتت أن كثير من النصوص التوراتية التي ذكرت مصر كانت تعني المنطقة جنوب خليج العقبة (شمال غرب شبه الجزيرة العربية)، حيث أثبت القوش والكتابات المسمارية التي عُثر عليها أن تلك المنطقة ( حتى القرن السابع ) كانت تدعى مُصُر أو مِصر وهو المكان الذي تسميه التوراة مصراييم، وعين المكان الذي أقامت به قبائل الشماعيلية أو الشمعونية!! ( وهذا الأمر سيفرح عشاق نظرية كمال الصليبيي، وأحمد داوود)
ثم ننتقل إلى واحدة من الأمور التي حيّرت باحثي التوراة، وهي قصة سبط اللاويين ( الذين تفرغوا للكهانة ومنهم موسى وهارون ) والذين فقد أثرهم، من خارطة توزيع القبائل الإسرائيلية، إذ لاوجود حقيقي لهم على أرض التوراة( من المعروف أن سبطي يهوذا وبنيامين سكنا الجنوب، والباقي في الشمال ) لكننا نعود ونسمع قصة اللاويين مجددا من جيل ما بعد السبيّ البابلي، الذي تركنا نعرف أن اللاويين اختفوا ولم يعدوا إلى أرض الميعاد!! وبنفس الوقت يخبرنا المدوّن التوراتي أن نبوخذ نصر قام بترحيل ثمانين ألفاً من فتيان اليهود إلى الحجاز؟؟
أخيراً، وبعد كل هذه الروايات والقصص الميثولوجية التي تصب في إتجاه واحد، أجد شخصيا أن أرض الحجاز كانت أحد المراكز الروحية الكبرى في تاريخ القصة اليهودية الإبراهيمية، فالكعبة لم تكن مركزاً لعبادات( الجاهلية ) الوثنية المبتذلة، كما يخبرنا الموروث الإسلامي بإطناب، وإسهاب قصصي أسطوري، وإلا فكيف يفسرون تحوّلها إلى مركز للحج الإسلامي فيما بعد، وكيف يفسرون تأكيد النص القرآني على جعل الصفا والمروى ( حيث يقف صنما إساف ونائلة !!) ضمن شعائر الحج ؟؟
ملاحظة: من يود معرفة المزيد حول هذا الموضوع ما عليه إلا إنتظار كتابي الذي سيصدر بعد قطاف المشمش


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.