بعد أسبوعين من نجاح أوّل إنتخابات بلديّة في تونس بعد إقرار البلاد دستورا جديدا يضمن التعددية والحرية والديمقراطية المحلية عاد الجدل في الربع السياسي إلى النقطة الصفر مع بروز مؤشرات على عدم وضوح الرؤية السياسية لدى أطراف كثيرة في ظرف حساس تمر به البلاد على مستويات عدّة قبل أشهر قليلة من ثاني إنتخابات تشريعية ورئاسية بعد الثورة. إجتماع قصر قرطاج بين مختلف الحساسيات السياسية والفاعلين الإجتماعيين للتوافق على صيغة نهائية لمحاور وبنود "وثيقة قرطاج2" أفرز إختلافا واضحا في الرؤى بشأن الحكومة والتحوير الوزاري الذي بات مرتقبا في غضون أيام قليلة، إجتماع أفرز أيضا نقاط إستفهام بشأن طبيعة تقييمات عدّة أطراف لحساسية الظرف الذي تمر به البلاد بين باحث عن الإستقرار السياسي وباحث عن تغييرات على مستوى رأس السلطة التنفيذية الأوّل يجعل من الإستقرار نفسه غاية صعبة المنال. قبل أسبوعين تمكّنت حركة النهضة التونسية من الفوز بالإنتخابات البلديّة بفارق كبير نسبيا على حركة نداء تونس ولكنها أصرت بشكل واضح على عدم المس من التوازنات السياسية داخل مشهد السلطة على وجه الخصوص وتحديدا في علاقة بمنظومة التوافق التي مكّنت الإنتقال الديمقراطيمن الإستمرار في السنوات الأربع الأخيرة إثر حوار وطني، حرص على التوافق يقابله نوع من الفتور من جانب قيادة نداء تونس ممثلة في المدير التنفيذي حافظ قائد السبسي الذي يرى المحللون السياسيون أنه لم يعد يفكر بنفس المنطق الذي مكنه من الصعود بصورة صاروخية الى المشهد السياسي وبات محكوما بالحسابات الضيقة للمحيطين به أو للغرفة المعتمة التي تديرها حكومة الظل . الواقع أن حركة النهضة لم تتخلى عن خيار التوافق حتّى قبل الإنتخابات البلدية التي فازت فيها بفارق واسع على بقية المكونات فقد مثّلت سندا قويا للنداء في أزماته المتتالية وخاصة بعد خسارة جزء كبير من كتلته البرلمانية في مجلس الشعب وهاهي لا تزال إلى اليوم متمسّكة بالحوار والتوافق بعيدا عن التنافي والإستقطاب الثنائي لتجنيب البلاد مزيدا من الأزمات في ظل وضع إقتصادي وإجتماعي إستثنائي. من خلال بعض المعطيات الواردة من كواليس نقاشات "وثيقة قرطاج 2" ومن خلال المواقف المعلنة يعمل البعض في النداء وفي رئاسة الجمهورية على تخريب المسار الذي دشنه الباجي قائد السبسي بشكل مباشر وغير مباشر وعلى التحرّش بمنظومة التوافق التي يستمدّ من خلالها حزبه مكانة قوية في الساحة السياسيّة والتي يستمدّ من خلالها حافظ نفسه نوعا من السلطة في حزبه . حافظ قائد السبسي ليس وحده من يغيّب عنصر التوافق والبحث عن الإستقرار في علاقة بمخرجات "وثيقة قرطاج 2" فالإتحاد العام التونسي للشغل يسير في نفس المضمار حسب المواقف المعلنة من القيادة النقابيّة وهو موقف لا يطرح نقاط إستفهام فحسب عن طبيعة المقدّمات لهذه المواقف ومآلاتها وإنعكاساتها على المشهد وعلى التجربة الديمقراطية الناشئة فحسب بل ويطرح نقاط إستفهام كثيرة عن مدى إلتزام الفاعلين السياسيين والإجتماعيين بالمصلحة الوطنية فوق الحسابات الضيقة فقد كشفت المواقف الأخيرة أنّ نداء تونس وإتحاد الشغل ينطقان من خلال تموقعات في الخارطة العامة في الوقت الذي تنطق فيه حركة النهضة إنطلاقا من تقدير موقف مبني على تغليب المصلحة العامة رغم أن الفرصة متاحة أمامها لفرض خياراتها والمشاركة بوزنها الإنتخابي الأكبر في البلاد في المفاوضات. تأجّل موضوع الحسم في بقاء يوسف الشاهد رئيسا للحكومة من عدمه إلى إجتماع آخر على مستوى الرؤساء منتظر خلال الأيام القادمة وهو إجتماع من المنتظر أن يكشف عن تموقع رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي نفسه وفيه سيظهر مدى حرصه على تغليب التوافق والإستقرار على الحسابات الضيقة التي يمارس أصحابها ضغوطات كبيرة قد لا تكون هي نفسها عنصر قوّة للفريق الحكومي القادم بقدر ما تمثّل تحديّا آخر إلى جانب تحديات كبيرة أبرزها الملفات الإقتصادية والإجتماعية العالقة وإنجاح الإنتخابات القادمة تشريعية ورئاسية.