قدّم نموذجا للدبلوماسية النشطة التي تتحرك دون خطوط حمراء، من تولّيه مهام رئاسة مكتب تونس بتل أبيب، إلى دوره في تثمين علاقات تونس مع الخارج وتوطيد أواصل الصداقة مع الدول المُجاورة عبرَ المُساهمة في حلحلة الملف الليبي وتحركاته النشطة لاستدعاء القادة العرب للقمة العربية المنعقدة بتونس مارس القادم. تبدو مسيرة وزير الخارجية خميس الجهيناوي مُتشابكة بين بين محاور عدّة: علاقات شخصية مع صانعي القرار وسياسة دولية رصينة وتحركات دبلوماسية نشطة على أكثر من صعيد.. هو الشخص الذي يحظى بثقة رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي حيث عول عليه كثيرا ومنحه فرصة كبيرة للبروز في أكثر من محطة، فهل يكون أحد البدائل المطروحة في دوائر نداء تونس على رأس الحكومة أو رئاسة الجمهورية في 2019 ؟ خبرةٌ كبيرة في الجانب القانوني تشكُّلُ الشخصيّة الدبلوماسية لخميس الجهيناوي مرّ على مراحل ودخوله لعالم السياسة لم يكن خاليا من الاجتهاد، لكن صاحبنا كان يملك المفاتيح لفتح بوابة النشاط الدبلوماسي، نظرًا لتشبعه بالجانب القانوني أّولا وقدرته على التصوّر والاستباق وتبنّي الثوابت الدبلوماسية على صعيد ثان. تحصّل الجهيناوي على إجازة في القانون العام وعلى شهادة الدراسات العليا في القانون العام وشهادة الدراسات المعمقة في العلوم السياسية وفي العلاقات الدولية ويتمتع بخبرة كبيرة في المجال القانوني أهلته لدخول بوابة وزارة الخارجية سنة (1979) أي بعد سنة من تحصله على شهادة الكفاءة في مهنة المُحاماة (1978)، حيثُ شغل العديد المهام في السلط الديبلوماسي وعين بين 1999 و2004 سفيرا مفوضا فوق العادة لدى ايرلندا وفي جانفي 2006 عين مديرا للشؤون السياسية والاقتصادية والتعاون مع أوروبا والاتحاد الأوروبي بالوزارة. ومن ديسمبر 2007 إلى جوان 2011 شغل منصب سفير فوق العادة ومفوض للجمهورية التونسية لدى فيدرالية روسيا وكذلك لدى أوكرانيا ولدى مجموعة الدول المستقلة. وقد تمت ترقيته في مارس 2011 إلى رتبة وزير مفوض فوق العادة وفي بداية سنة 2016 عين الجهيناوي وزيرا للخارجية في حكومة الحبيب الصيد. وقد كانت لخميس الجهيناوي مساهمات أكاديمية حيث ألقى محاضرات لدى عديد المؤسسات سيما جامعة وستمنستر وأكاديمية لندن الديبلوماسية (بريطانيا العظمى) وكذلك أمام معهد الدفاع الوطني والأكاديمية العسكرية والمعهد الديبلوماسي بتونس والأكاديمية الديبلوماسية بموسكو. جدل تل أبيب قبل تعيين وزيرًا للخارجية، اشتهر الجهيناوي لدى الرأي العام التونسي بجدل صاخب أثير حوله بعد تحمله مسؤولية للإشراف على مكتب تونس في تل أبيب سنة 199 قبل أن تغلق تونس مكتبها سنة 2000 بعد ردود الفعل الغاضبة الرسمية والشعبية حيال الاعتداءات الاسرائيلية الفظيعة ضدّ الشعب الفلسطيني . وحسب تقرير نشرته جريدة الشرق الأوسط اللندنية، بتاريخ 24 أكتوبر 2000 /العدد 8001/، فقد تم في شهر فيفري من سنة 1996 تبادل المذكرات بين وزارتي الخارجية التونسية والإسرائيلية حول ترتيبات افتتاح مكتبي رعاية المصالح في كلا البلدين. وقد نصت هذه المذكرات على تعيين خميس الجهيناوي رئيسا لمكتب تونس في تل ابيب، وشالوم كوهين رئيسا لمكتب رعاية مصالح إسرائيل في تونس . وكانت تونس قد اعتبرت أن قرارها آنذاك يندرج في إطار دعم دورها في مسيرة السلام، وفي تركيز السلطة الفلسطينية، ولذلك قررت أيضا فتح مكتب لها في مدينة غزة. وفي رد له على هذه الانتقادات قال خميس الجهيناوي إنّ فتح هذا المكتب “كان بطلب من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بهدف تشجيع الطرف الإسرائيلي على مواصلة مباحثات السلام”. وأضاف أنه “ليس له أي موقف سياسي ولم يقم بأي تطبيع، وأن عمله في مكتب العلاقات بتل أبيب كان مثل عمله في الهند أو موسكو أو كوريا.” ويبدو أنّ “قصة” الجهيناوي مع تل أبيب لم تنه مستقبله السياسي بقدر ما عجّلت في ظهور شخصية دبلوماسية قادرة على حلحلة أكبر الملفات وأشدّها تعقيدا ليسطّر صفحة جديدة من مسيرته المهنيّة بعد تعيينه وزيرا للخارجية سنة 2016 . عمل ماراطوني في سنة 2017 أي بعد سنة من تولي الجهيناوي منصب وزير الخارجية، بادرت الوزارة بتفعيل جملة من القرارات والترتيبات أهمّها، انتداب دبلوماسيين شبان (50 شابا)، إبرام اتفاقيات برامج بين الوزارة وعدة أطراف كوزارة السياحة والصناعات التقليدية ووزارة الشؤون الثقافية، كما ساهمت الوزارة في تنظيم الندوة الوطنية “تونس 2020” للاستثمار، علاوةً على الجهد الجبار الذي قامت به الديبلوماسية الاقتصادية لإقناع مختلف الأطراف كي يتراجعوا في ظرف وجيز عما تم نشره من تحذيرات ونصائح من بعض الدول لرعاياها بعدم زيارة تونس. وعلى صعيد مغاربي، قام الجهيناوي بجهود كثيفة من أجل اغلاق ملف الخلافات الثنائية ومن بينها الخلاف الجزائري المغربي في سبيل دفع العمل المغاربي المشترك وإحياء الاتحاد من جديد، علاوة على ذلك عُرف للرجل تحركات مكثفة في سبيل حلحلة الملف الليبي والتوصّل إلى صيغة تُمكّن الليبيين من حلّ سياسي توافقي، وهو ما تظهره تحركاته الديبلوماسية المتمثلة في زيارة كل من طرابلس وطبرق وبنغازي ولقاءه بأهم القيادات الليبية. والآن يتطلّع وزير الشؤون الخارجية لإنجاح القمة العربية التي ستُنظم في تونس مارس القادم، الأمر الذي جعله يتحرك بشكل مكثف لتسليم الدعوات للملوك والأمراء والرؤساء العرب لحضور القمة التي تحرص تونس على نجاحها لمُعالجة القضايا العربية الراهنة . وتولّى الجهيناوي تسليم دعوة لعاهل المملكة السعودية سلمان بن عبد العزيز وكذلك أمير قطر وتوجه بدعوة لرئيس الجمهورية اليمنية عبد ربّه منصور وأمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، كما سلم الجهيناوي رئيس دولة الامارات الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان دعوة لحضور القمّة العربية وزار قطر لنفس السبب، وقدّم دعوة لمصر . النأي بالمؤسسة الديبلوماسية عن “السياسية” يَبرزُ اقتدار الجهيناوي في تسيير الوزارة عبر نأيه بالمؤسسة الدبلوماسية عن التجاذبات السياسية، مُقابل الحرص على تحديد أولويات ومصالح تونس وتعزيز وتوسيع شركائها وجذب الاستثمارات، وفتح أسواق جديدة للمنتجات التونسية، ويُعبّر الجهيناوي عن ذلك بالقول “السياسة الخارجية لتونس لا تُحدّدها الشعارات أو الإيديولوجيا بل تُحددها مصالح تونس ..” واستطاع الجهيناوي في خضم كل ذلك أن يصرف جهده ووقته في سبيل تعزيز مكانة تونس إقليميا ودوليا، من خلال مقاربة ترمي إلى إرساء روابط ديبلوماسية أكثر متانة داخل الفضاء التونسي-الدولي و قادرة على تحفيز التنمية المشتركة خاصة في مجالات الأمن و السلم و التصدي لظاهرة الإرهاب التي استفحلت في السنوات الأخيرة. الجهيناوي والمحطّات القادمة صفات تحلّى بها خميس الجهيناوي ومكّنته في مناسبات عديدة من معالجة الملفات المُتشابكة والحالكة، قليل الكلام ولا يحبذ الظهور في الوسائل الإعلامية إلاّ إذا اقتضت الضرورة ، راهن عليه رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي آملا في أن يُحيي جذوة الدبلوماسية التونسية بعد سنوات من الفتور ، فنجح في نحت صورة إيجابية لتونس وفي ترسيخ علاقاتها الدوليّة في ظرف تزدحم فيه الملفات والقضايا الداخلية والإقليمية والدولية الشائكة. ويحسب للرجل دفاعه الدائم في الحوارات الصحفية والمحاضرات التي ألقاها خارج تونس على التجربة الديمقراطية ومسارها الديمقراطي وخاصة خيار تجربة التوافق بعد انتخابات سنة 2014. وأشاد الجهيناوي أمام مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة، في فيفري 2017، بتجربة الانتقال الديمقراطي في تونس التي “اتخذت من سياسة التوافق سبيلا للحفاظ على الاستقرار والمضي قدما في إرساء دعائم مجتمع ديمقراطي حداثي تُصان فيه الحقوق والحريات”. وهي يعتبر أنّ حركة النهضة مثل سائر الأحزاب السياسية الوطنية ومنظمات المجتمع المدني الرئيسية في البلاد، جزء من المشهد السياسي “وهم شركاء في حكومة الوحدة الوطنية، وتحديد دور النهضة أو أي حزب سياسي يعود بالأساس إلى إرادة الناخب التونسي الحرة”، مثلما ورد في تصريح له لجريدة الشرق الأوسط. كما شدّد في الحوار نفسه على “صواب تجربة التوافق الذي يعد إحدى سمات التجربة الديمقراطية في تونس”. ورغم أنّ الرجل يبدو أنّه لا يرى غير مهامه الدبلوماسية على رأس أولوياته، إلاّ أنّ وجوده إلى جانب قائد السبسي، ذي التجربة الدبلوماسية السابقة، إضافة إلى تموقعه ضمن حزام حركة نداء تونس، دون الدخول في التجاذبات التنظيمية التي قد تسيء إلى صورته، تؤهله إلى أن يكون الشخصية الجامعة في الوقت المناسب. فهل يكون إحدى الأوراق الخفية لحزب الباجي قائد السبسي بتدبير من المؤسس نفسه، والذي لن يجد عناء في إقناع الشركاء الدوليين بهذا الوجه المألوف والمختبَر؟ وهل يُرشحه نجاحه لطرحه كأحد البدائل في دوائر نداء تونس على رأس الحكومة أو رئاسة الجمهورية في 2019؟