طيلة السنوات الأخيرة التي عقبت ثورة 14 جانفي، تعيش تونس على وقع احتراب هووي عززته الصراعات الفكرية والقطيعة الإيديولوجية التي تدعّمت بالطفرة في عدد الأحزاب المكونة للمشهد السياسي اليوم البالغ عددها 214 حزبا. ولعلّ التنافس من أجل الوصول إلى السلطة وفرض الوجود في الساحة السياسية جعل من الخطابات السياسية اليوم تنبني بالأساس على الفُرقة التي تصل حدّ العنف تجاه الآخر والعمل على إقصائه، ناهيك عن تعزيز النزعة الانقسامية في ظلّ هيمنة البعد الايديولوجي الفكري على توزّع المكونات السياسية. وقد أثبتت التجربة السياسية الوليدة في تونس أن الأفكار والخلفيات النظرية والتوجهات ذات البعد الانتمائي الإيديولوجي المتعصّب قد عمّقت انقسام التونسيين أمام رجوحِ كفة المصالح الحزبية الخاصة التي بات يكرّس لها النظام الجديد وغيابٍ تامّ للوحدة الوطنية التي هم في أمسّ الحاجة إليها اليوم.
أولى بوادر الخطاب السياسي المؤدلج بعد الثورة لعلّ الجذور الأولى لظهور الخطابات السياسية المؤدلجة وذات القوالب الموجّهة برزت بعد الانتخابات التأسيسية في 2011 بعد ثورة الحرية والكرامة، بعد سنوات من الكبت السياسي والقمع على جلّ المستويات وهيمنة الخطاب الواحد في ظلّ سيطرة حكم الحزب الواحد طيلة فترة حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وقبله الحبيب بورقيبة. ومع دخول البلاد في مرحلة حكم جديدة قائمة بالأساس على الديمقراطية التي فتحت الأبواب أمام التعددية الحزبية، بات من البديهي أن تشهد البلاد تنافسا بين الفرقاء السياسيين في ظلّ معترك سياسي حول السلطة. ورغم التقدم النسبي في الممارسة السياسية بعد انقضاء المرحلة الانتقالية والدخول في مرحلة الجمهورية الثانية بعد صياغة الدستور في جانفي 2014 ثم إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في موفّى 2014، لم يتغير الخطاب السياسي بل ازداد نزوعا إلى الخطاب الهووي في أقصى درجاته. ولعلّ تأسيس حركة نداء تونس الذي قدّم نفسه في مؤتمره التأسيسي دون بناء على برنامج سياسي، كما هو الشأن الدارج بالنسبة للأحزاب السياسية، بل اعتمادا على خطاب هووي يقوم على “الحفاظ على النمط المجتمعي الحداثي لدولة الاستقلال”، ممّا سمح له في بداية طريقه من جمع طيف من قدماء حزب التجمع الدستوري سابقا وثلة من اليسار والقوميين في جبهة واحدة تحت يافطة ما يعرف ب”جبهة الإنقاذ”؛ تحالف جمع مكونات سياسية يستحيل في الظاهر التقاؤها لكنها اجتمعت بالتركيز على البعد الثقافي والنمط المجتمعي، الأمر الذي يكشف أن البعد الهووي هو المحرك الحقيقي للفاعلين السياسيين، ولعلّ التشتت السريع الذي شهده هذا التحالف دعّم هذه الفكرة نظرا للبَوْن الفكري الشاسع بين مكوناته.
التوظيف السياسي لجدل الهوية لئن حسم دستور 2014 في كون تونس دولة مدنية الإسلام دينها والعربية لغتها، فإنه رغم مرور 5 سنوات على إقراره لا تزال مسألة الهوية تلقي بظلالها على الحياة السياسية، حيث تعمل أطراف سياسية على توظيفها بشكل كبير في شتى المحطات السياسية لتكون محلّ مزايدات سياسية. ونذكّر، في هذا الصدد، بأن تونس عاشت خلال الأشهر الأخيرة على وقع مظاهرات ومظاهرات مضادة، على خلفية خلافات بشأن تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، الذي تضمن مقترحات من بينها إقرار المساواة في الإرث، وإلغاء عقوبة الإعدام وإنهاء تجريم المثلية. وقد أثار ذلك ضجة وجدلا واسعين بين مدافعين عن الهوية الإسلامية للشعب التونسي الرافضين لمحتوى تقرير اللجنة، وآخرين مساندين للتقرير منادين بالتحرر مما اعتبروه قيودا على أساس الدين لا تتناسب مع المجتمع التونسي الهجين وفق تقديرهم. وقد استغلت عديد الأطراف الجدل لتصنيف التونسيين إلى “حداثيين” و”ظلاميين”، في حملة شعواء لتعميق هوّة الفرقة وتعزيز الاستقطاب الثنائي بتطعيم الصراع الهووي بين شرائح المجتمع التونسي. وعلى خطى التكتيك السياسي الذي سار على دربه في 2014، يعوّل حزب نداء تونس على مسألة الهوية في استمالة الناخبين في حملة انتخابية مبكرة تعبّد الأرضية لسباق انتخابات 2019. وقد راج مؤخرا خبر عزم مجموعة من التونسيات تنظيم مسيرة، مطالبة بتعدد الزوجات، أمام مجلس نواب الشعب بباردو الخميس المنقضي، وسرعان ما عملت صفحات على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك على الترويج إلى أن للإسلاميين والسلفيين على حدّ سواء علاقة بالمناداة بمثل هذه المطالب المتعارض مع ما تنص عليه مجلة الأحوال الشخصية، الأمر الذي خلق ضجة واسعة في صفوف التونسيين وجدّد إثارة الصراع الهووي بينهم. وبصرف النّظر عن الأطراف التي تقف خلف إشاعة مسيرة المطالبة بتعدد الزوجات باعتبارها لم تُنظّم من الأساس، فإن إثارتها في مثل هذه الآونة بالذات لها خلفيات سياسية تعمل على اقحام التونسيين في معارك هووية هم في غنى عنها. وفي انتظار الاستحقاقات الانتخابية القادمة، من المتوقع ألاّ تختلف الحملات الانتخابية لسباق 2019 عن السباقين الانتخابيتين في 2011 و2014 في جوهرها، وأن ترتكز الدعاية بالأساس على الصراعات القائمة على الايديولوجيا والنمط المجتمعي وليس على البرامج التنموية، لكن يبقى الحسم موكولا للمواطن التونسي الذي أضحى بعد تجربة ثماني سنوات من الديمقراطية، ومن الأحداث السياسية والتقلبات، يُدرك النوايا التوجيهية من الخطابات السائدة.