تعوّد التّونسيّون الاستماع لخطاب الشيخ عبد الفتّاح مورو في البرامج الحواريّة السياسيّة وكان دائما يلفت الانتباه بطريقته السلسة في الحجاج والإقناع وطرافة أسلوبه في الكلام وحضور البديهة.. وقد استضافت الكليّة الزيتونيّة صباح اليوم الأستاذ عبد الفتاح مورو لتقديم درس افتتاحي عنوانه " اهدنا الصّراط المستقيم " وقد فوجئ جميع الحاضرين الذي غصّت بهم القاعة بالعرض الذي قدّمه طيلة ما يقرب من الثلاث ساعات ارتجالا كأنّهم يكتشفون هذا الرّجل لأوّل مرّة.. ليس من عادتي التّساهل في الحكم للنّاس أو عليهم حيث أتحرّى الألفاظ وأتخيّر العبارات واقتصد في الإطراء.. ولكنني هذه المرّة وجدت نفسي والحاضرين معي أمام عالم ضبط ثبت محقّق حصيف متّصل السّند بأهل العلم من قبله.. يحيل على عشرات المدوّنات من المصادر والمراجع التراثيّة والحديثة في مختلف العلوم والمعارف الدّقيقة التي استنفرها لإدراك معاني آيات فاتحة الكتاب.. كان ينقل النّصوص من بطون الكتب بدقّة وأمانة مستوعبا السياقات الخاصّة والعامّة الحافّة الظّاهرة والخفيّة.. ولكنّه لم يكن مجرّد ناقل بل محقّقا مصحّحا مرجّحا مجتهدا مضيفا من عقله وذوقه وثقافة عصره مع لغة مفاهوميّة ونحت لمصطلحات جديدة لم نقف لها عند غيره فضلا عن تناسق المنهج وترابط المنطق الدّاخلي للتحليل والحسّ النقدي المؤسّس على مقدمات موضوعيّة وفهم مقاصدي تجديدي.. في آخر العرض تجد صعوبة في تصنيف هذه المادّة المعرفيّة في مجال من مجالات المعرفة محدّد.. فقد انفتح على العديد من العلوم قديمها وحديثها مع ما أضافه من ابداع ذاتي.. ممّا يجعلك إلى تصنيف هذه القراءة ضمن المقاربة الحضاريّة الشّاملة التي ينطبق عليها الحديث الشريف : اقرؤا القرآن كأنّما ينزّل عليكم.. والأكيد أنّ الكثير ممّن واكب المحاضرة سيغادر ولديه انطباع أنّه يقرأ الفاتحة لأوّل مرّة.. اللقاء لم تغب عنه المنغّصات حيث رابط عدد من الطلبة من أصحاب العقيدة السلفيّة الجهاديّة الذين طالموا رفعوا شعار " اسمعوا منّا ولا تسمعوا عنّا " ليمنعوا هذا الرّجل من الكلام فبقوا أكثر من الساعة من الزّمن يحاولون إيقاف المحاضرة رغم أنّ المنظمين طلبوا منهم الدّخول للقاعة والنقاش وإقامة الحجّة على الشيخ عبد الفتاح مورو ولكنّهم رفضوا وآثروا الضجيج والتّشويش ومحاولة خلع باب القاعة البلوري واثناء إحدى تلك المحاولات انكسر البلّور وسقطت شظاياه الثقيلة على يد أحد الطلبة الذين رابطوا أمام الباب وجرح وعرز جرحه.. وبعد مفاوضات مضنية قبل بعضهم الدّخول ومواجهة الخصم اللدود.. واثناء تلك الجلبة والفوضى واصل الشيخ عبد الفتاح مورو محاضرته بكلّ هدوء واتّزان وثبات وتسلسل للأفكار وعمق في الأطروحة.. وأجاب على أسئلة سائليه من الناقدين والمستفسرين دون ارتباك أو تعالم.. منسّبا أفكاره معترفا بالنقص وإمكان الخطإ معتذرا عن ما يمكن قد يكون اعتري أفكاره سابقا من مجانبة الصّواب.. دوّنت مثل أيّ تلميذ يثني الرّكبة أمام شيخه الكثير من التخريجات الرشيقة والعبارات الأنيقة.. ولكن ما رسخ في الذهن من انطباع وما نريد أن نسرّ به لهذا الأستاذ الجليل الذي نكتشف قيمته المعرفيّة والمنهجيّة: سيّدي الجليل: العالِم أكبر من السياسيّ وإنّ حضورك في مجالس العلم والمعرفة لأكثر جدوى وأعمّ فائدة وأشمل نفعا وأعمق أثرا في بناء الوعي الحضاري والشروط الموضوعيّة للنّهوض.. سيّدي ثلمة العالم لا يستعاض عنها بألف سياسي فما بلك بعالم سياسيّ حقّق فضيلتي النّظر والعمل فإذا قصرت به فضيلة العمل لعلّة في شركاء العمل فلا يقصر به النّظر فهو باب مفتوح على العرش الذي إذا تعلّقت به همّة المرء لناله..