أنذر العباسي في ندوة صحفية الاخيرة نحسات قد تشهدها تونس في حال فشل الحوار الوطني وعدم توصل الأطراف السياسية إلى وفاق قبل مهلة العشرة أيّام. قالها العباسي بوضوح: بديل الحوار لن يكون سوى الفوضى والخراب والإرهاب، ولكن خانته شجاعته وجرأته مرّة أخرى فلم يكاشف الشعب التونسي بحقيقة الأطراف التي سعت جاهدة لإفشال الحوار ونسف كل فرص نجاحه، العباسي لم يتجرأ على كشف المراهنين على الدم والفوضى والخراب، الذين دخلوا الحوار مبيتين لحساباتهم الضيّقة ولحقدهم الإيديولوجي المقيت المدجّج بنواياهم الانقلابيّة من أجل تصفية حساباتهم مع حركة النهضة فقط، ولم يكن يعنيهم من مبادرة الرباعيّ سوى الحصول على استقالة الحكومة والسعي لتعيين رئيس حكومة على مقاسهم، مهمته تنفيذ أجندتهم السياسية والحزبية وتنفيذ خيارهم الانقلابي وطرد حكومة لعريّض وإسقاط سلطة المجلس الوطني التأسيسي. شجاعة العباسي خذلته فلم يصارح شعبه باستماتة الجبهة ومن ورائها متطرفي اليسار في "نداء تونس" الذين كانوا يطبخون الطبخة على نار هادئة تحت الطاولة؛ لإفشال الحوار بالطرق المتاحة وغير المتاحة، وبأنّ رفضهم المطلق لترشيح جلول عيّاد، والاستماتة على اسم شوقي الطبيب والتفويض المفاجئ لبعض الأحزاب الحليفة للجبهة الشعبية، مهمة اختيار المرشح الوفاقي للرباعية هي خطوة تهدف للانقلاب على الحوار وتحويله إلى عملية إملاء حرفي لشروط الجبهة لا يبقى للنهضة أمامها إلا الموافقة والرضوخ أو تحمل مسؤولية الفشل. لم يقل العباسي إنّ ترشيح طبيب كرئيس للحكومة جعل الرباعية في موقف محرج أمام الشعب، وأمام النخب السياسية، وهو الذي لا تتجاوز خبرته في التسيير إدارة جمعية محامين، ولا علاقة له بتسيير دواليب الدولة، بالإضافة إلى أنّه من أوّل المستبعدين من قائمة الترشيحات وفق المقاييس التي ضبطت على طاولة الحوار. صحيح أنّ العباسي صارح الرأي العام بالبديل عن الحوار الوطني وتحقيق الوفاق السياسي لإدارة هذه المرحلة الدقيقة التي تمرّ بها البلاد، ولكنه تغافل سهوا أو عمدا عن الحديث عن عدم توفّر المناخات الضرورية لإنجاح هذا الحوار، فهل توقفت عمليات التحشيد الجارية في الشارع وفي وسائل الإعلام، هل فرضت هدنة اجتماعية تسمحُ بأن تستعيد الساحة السياسية هدوءها حتى تستطيع بناء جسور من الثقة المفقودة اليوم في تونس، وحتى تستطيع التفكير بهدوء وتعقّل للخروج من الوضع الذي نعيشه؟ الأكيد هو أن لا شيء من هذه الظروف الضرورية كان متوفّرا، فقد تواصل الحوار تحت نوع من القصف الإعلامي المركز، وتجييش للشارع، وانتهاج للعنف المادي واللفظي، بالتوازي مع نسق متصاعد من الإضرابات والاعتصامات. انتهت اللعبة "Game is over" لئن سكت العباسي والرباعي عن حقائق الأمور، فإنه لم يعد خفيّا اليوم على أحد هوس الانقلابين بانتزاع السلطة من الإسلاميين واستبدالها بسلطة جديدة على مقاسهم تُلغي كلّ الشرعيات الانتخابية، وتنكص عن الخيار الديمقراطي، وتُعطّل مسار بناء المؤسسات الديمقراطيّة الجديدة، وتفسد الطريق نحو المسار التأسيسي من كتابة دستور جديد، وبعث هيئة عليا مستقلة للانتخابات، وقانون انتخابي، وحكومة المفروض أن تقوم بمهام واضحة في تأمين المسار نحو انتخابات نزيهة وشفافة تصل بالبلاد والثورة إلى مرحلة المؤسسات الشرعية الدائمة والمستقرة. لم يعد خفيا على أحد اليوم بدائل الجبهة ومتطرفي النداء" للحوار المتمثلة في المزيد من الاغتيالات التي بشرونا بها أكثر من مرة، والتفجيرات والعمليات الانتحارية واستدعاء فلول الإرهاب والجريمة المنظمة عبر الأموال الفاسدة والعمالة لقوى الردّة وقوى الثورة المضادة التي تُريد خنق الربيع العربي والالتفاف عليه وتحويله إلى شتاء مظلم؛ انتقاما من الشعوب التي خرجت ضدّ الدكتاتوريّة والاستبداد وغياب العدالة في توزيع الثروة والخيرات الوطنيّة؟ ولكنّ اللعبة انتهت، وهذا ما سيقوله الشعب التونسي وكل أحرار تونس. الوطنية والديمقراطية… والامتحان الصعب الآن بعد أن حصحص الحق، ودعي كلّ أناس بإمامهم، لم يعد هناك من خيار لنا كتونسيين سوى الاصطفاف إمّا إلى جانب الوطن والديمقراطية، وإمّا إلى جانب الفوضى والعنف والاستبداد، وما على القوى التي تؤمن بالديمقراطية وتتمتع بحسّ وطني عال، وتدرك أنّ مصلحة تونس تكمن في سدّ الطريق تماما أمام عودة الاستبداد والدكتاتورية، وأمام الذين يعتقدون أنّ الفوضى سبيل سالكة لتحقيق بعض المكاسب السياسية، على هذه القوى جميعا أن تتكتل داخل جبهة واسعة من المؤمنين بالحوار فعلا، من داخل الحوار وخارجه، ومن المبعدين عنه من مختلف التيارات. إن الحديث عن شروط لإنجاح الحوار سيظل كلاما طوباويا وفضفاضا ما لم تتم عملية فرز حقيقي للقوى السياسية اليوم بين من يؤمن بالحوار والتوافق كحلّ لإنجاح الانتقال الديمقراطي وتأمين الاستحقاق الانتخابي، ومن يستبيح كل المحرمات والمحذورات لإفشال الحوار من أجل تحقيق مكسب سياسي رخيص ولو كان الثمن الدمار الشامل وعودة الاستبداد. وبعد أن أثبتت النهضة للداخل والخارج أنّها غير مسكونة بهاجس السلطة ولا هوس لها في الهيمنة على مفاصل الدولة وجرّ البلاد إلى دكتاتوريّة جديدة، كما أثبتت بما لا يفسح مجالا للشك أو المزايدة أنّها حركة وطنية حقيقة تُعطي الأولويّة المطلقة للوفاق وللوحدة الوطنيّة، وأنّها مسكونة بهمّ إنجاح التجربة الديمقراطية الناشئة ولو كان ذلك على حساب حقوقها السياسية وأغلبيتها الانتخابيّة؛ إيمانا منها بأنها خطوة لا بدّ منها لتجنيب البلاد مآلات خطيرة كان الانقلابيون يدفعون دفعا قويا نحوها من خلال محاولاتهم المتكرّرة لإفشال الحوار وتوفير أرضية مناسبة لتهديداتهم بالاغتيال السياسي الثالث، وبالفوضى الاجتماعية. وبعد أن شاركت في الحوار دون شرط أو قيد، وقدّمت التنازل تلو الآخر، حتى لا تكون عنصرا معرقلا للوفاق، أمست الكرة اليوم في ملعب أحزاب المعارضة الديمقراطية الوسطية التي لا تقامر بمصلحة الوطن، ولا تعطي الدنية في الديمقراطية وتنتصر للمصلحة العليا للبلاد، وتساهم في عزل المغامرين الذين يراهنون على الفوضى والدمار وعلى لعبة الدم والنار، ويبدو أن مؤشرات إيجابية تذهب في هذا الاتجاه، خاصة بعد استماتة الجبهة ورفاقها داخل "النداء" في رفض المستيري الذي أجمعت عليه أغلب الفصائل السياسية المشاركة في الحوار دون مبرّر مقنع، وتكرّر نفس الموقف مع جلول عيّاد. الخيارات الممكنة للخروج من الأزمة يكفي أن تلتف القوى الوطنية والديمقراطية حول ضرورة إنجاح التجربة الديمقراطية وعزل دعاة الفوضى والخراب وأعداء الديمقراطية الأزليين الذين يعانون فوبيا الانتخابات؛ حتى يكون الطريق معبّدا أمامهم للعديد من الخيارات الوفاقية التي ستجنب البلاد مخاطر الانزلاق في المجهول، والانتكاس إلى مرحلة استبداد جديدة، ومنها الذهاب إلى استفتاء في حال وجد الحوار نفسه أمام انسداد كالذي نعيشه اليوم، وذلك حتى نعطي الشعب فرصة الحسم بين الخيارات المطروحة، وحتى يعبّر عن رأيه في القضايا المصيرية التي تهم البلاد، أو الذهاب إلى خيار الرئيس المنصف المرزوقي الذي طلبت منه بعض الوجوه السياسية والحقوقية أن يمارس الصلاحيات التي منحه إياها التنظيم المؤقت المنظم للسلط العمومية، ويرشّح شخصية وطنية وفاقية تحظى باحترام غالبية المشهد السياسي والحقوقي والمدني؛ لتقود هذه المرحلة الانتقالية المتبقية حتى الانتهاء من المسارات التأسيسية والوصول إلى انتخابات حرّة ونزيهة تؤسس لمرحلة المؤسسات الشرعية الدائمة، وتضمن الاستقرار السياسي والاقتصادي. أو الالتفاف حول المجلس الوطني التأسيسي والتسريع في نسق أعماله التأسيسية التي تتوج بموعد انتخابي ينهي هذه المرحلة الانتقالية، ويؤسس لمؤسسات منتخبة، في ظرف لا يتجاوز ربيع 2014، وفي الأثناء تضطلع الحكومة الحالية بمهمة تسير الأعمال حتى الاستحقاق الانتخابي. أمّا الخيار الرابع فيتمثل في تشكيل حكومة وحدة وطنية أو ائتلاف سياسي تشارك فيه القوى السياسية الوطنية والديمقراطية لتسيير ما بقي من المرحلة الانتقالية والإشراف على إنهاء المسارات التأسيسية، وتأمين انتخابات حرّة وشفافة يمارس فيها الشعب سلطته دون وصاية من أحد. فائزة الناصر