بسم الله الرحمان الرحيم السيد رئيس مجلس المستشارين، السيد رئيس المجلس الدستوري، حضرات النواب وأعضاء مجلس المستشارين المحترمين وأعضاء المجلس الدستوري، السادة والسيدة رؤساء الهيئات الدستورية وأعضاءها، حضرات السادة والسيدات، نحتفل اليوم بمرور خمسين سنة على إصدار دستور أول جوان 1959. وهي مناسبة هامة نستحضر فيها المعاني العميقة لهذا الحدث التاريخي الذي جسم طموحات الشعب التونسي إلى الحرية والديمقراطية والكرامة. وأغتنم هذه المناسبة لأستذكر بإكبار وتقدير كل من ساهم في وضع هذا الدستور، سواء الأحياء منهم أو الذين فارقونا ممن كتبوا صفحات ناصعة في تاريخ بلادنا المجيد وأخص بالذكر منهم الزعيم الحبيب بورقيبة الذي انتخب أول رئيس للمجلس القومي التأسيسي. وهي مناسبة نستحضر فيها كذلك ذكرى شهداء 9 أفريل 1938 الذين ضحوا بحياتهم من أجل برلمان تونسي. لقد ارتبط الدستور في بلادنا بفكرة الحرية والاستقلال والسيادة والكرامة. وفي ذلك دلالة على مدى تجذر الفكر الدستوري الذي استلهم معانيه من رواد الفكر الإصلاحي في القرن التاسع عشر الذين دعوا إلى تقييد الحكم بالقانون ومنهم أحمد ابن أبي الضياف وخير الدين باشا. وهو ما جعل بلادنا تعرف أول وثيقة لإعلان الحقوق، وثيقة عهد الأمان سنة 1857، وأول دستور مكتوب في العالم العربي وهو دستور 26 أفريل 1861. ولربط الماضي بالحاضر، أذنا، هذه السنة، بتنظيم درس خاص حول الدستور بالمدارس والمعاهد الثانوية وذلك يوم 8 أفريل المنقضي والذي يوافق بداية أشغال المجلس القومي التأسيسي في 8 أفريل 1956، حتى يتمكّن جيل المستقبل من معرفة تاريخ دستور بلاده والمبادئ التي يعتمدها والحريات التي يقرها. لقد كرس دستور أول جوان 1959 الحقوق والحريات الأساسية للمواطن. فأعلن المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وضمن حرية المعتقد، وحرية التنظيم وتكوين الجمعيات، وانبنى على قاعدة فصل السلطات واستقلال السلطة القضائية بالخصوص، وأقام دعائم النظام الجمهوري ومقومات دولة القانون والمؤسسات. واستطاع بذلك أن يكون دستورا رياديا ساهم ويساهم في تحقيق التنمية السياسية في البلاد. وهو ما يفسر صموده أمام الأزمات التي مرت بها تونس في بعض الحقب خلال القرن الماضي. حضرات السادة والسيدات، لقد وقع الانحراف عن بعض مبادئ هذا الدستور. لكن إرادتنا، إبان تحول السابع من نوفمبر 1987 كانت أن نحافظ عليه رغم مناداة البعض في بداية التغيير بوضع دستور جديد وإقامة جمهورية ثانية. وقد رفضنا هذه الدعوات إدراكا منا أن قوة الدستور في ترسخه في ضمير الشعب وفي بقائه على مر الأجيال. وكانت حجتنا في ذلك أن دستور أول جوان 1959 الذي وضعه مجلس قومي تأسيسي منتخب مازال صالحا. فرفضنا بذلك تقليد الغير من أجل التقليد. وبادرنا بإدخال إصلاح هام عليه في 25 جويلية 1988 مكّن من إعادة الاعتبار للنظام الجمهوري تماشيا مع ما أعلنه بيان السابع من نوفمبر 1987 من أنه لا مجال للخلافة الآلية ولا مجال للرئاسة مدى الحياة. وبذلك تمّ تخليص الدستور من الشوائب التي علقت به وإعادة الاعتبار إلى النظام الجمهوري وإلى سيادة الشعب، وفاءا لإرادة المؤسسين. وأدرجنا إصلاح الدستور في مساره التاريخي مؤكدين أن تحول السابع من نوفمبر 1987 هو مشروع حضاري جذوره ضاربة في أعماق الحركة الوطنية وفي حركة الإصلاح، لا يتنكر لماضينا بل يعمل على النهل من ينابيعه. حضرات السادة والسيدات، إنّ الدساتير ليست نصوصا جامدة، بل هي في حاجة إلى التطوير وفقا لتطور المجتمع حتى تكون بالفعل معبرة عن الواقع ودافعة في نفس الوقت، إلى التقدم. لذلك سعينا، منذ التغيير، إلى تعديل الدستور بما يتلاءم مع تطور المجتمع ويجعله قادرا بالخصوص على الاستجابة لطموحات الأجيال القادمة إلى مزيد الحرية والديمقراطية وضمان حقوق الإنسان. ولقد ركزنا هذه التعديلات على ضمان علوية الدستور بإحداث مجلس دستوري، منذ بداية التغيير، ارتقينا به تدريجيا إلى مرتبة الدستور. وأوكلنا له مراقبة دستورية القوانين وسير الانتخابات الرئاسية والتشريعية والاستفتاء إيمانا منا بأن علوية الدستور لا معنى لها في غياب مؤسسة تسهر على ضمان هذه العلوية. كما سعينا من خلال الإصلاحات الدستورية إلى ترسيخ سيادة الشعب بأن وسعنا في مجال الاستفتاء على مشاريع القوانين ذات الأهمية الوطنية أو في المسائل الهامة التي تتصل بالمصلحة العليا للبلاد. وأقررنا الاستفتاء حول الدستور مستندين في ذلك بالخصوص إلى مداولات المجلس القومي التأسيسي التي أقرت الرجوع إلى الشعب في المسائل الدستورية الهامة. وبالفعل أقر الشعب، صاحب السيادة، في 26 ماي 2002 الإصلاح الدستوري الجوهري الذي أرسى دعائم جمهورية الغد بمقتضى التعديل الذي أدخل على الدستور في أول جوان 2002. وشملت تلك الإصلاحات أيضا توسيع مجال المشاركة من خلال التقليص في السن الانتخابي من 20 إلى 18 سنة لتمكين الشباب من المشاركة في الحياة السياسية والتدرب على الممارسة الديمقراطية. كما خفضنا في سن الترشح لمجلس النواب من 28 سنة إلى 25 سنة ثم إلى 23 سنة حتى نفسح المجال واسعا أمام تمثيل الشباب في هذه المؤسسة الدستورية. وإدراكا منا لأهمية توسيع التمثيل باعتباره من المقومات الأساسية للأنظمة الديمقراطية، بادرنا بإحداث مجلس المستشارين الذي يضمن تمثيل المنظمات الوطنية والجهات والشخصيات والكفاءات الوطنية بما يمكن من إثراء التشريع والاستفادة من تجارب الخبرات العالية في البلاد. وقد أصبح هذا المجلس بالفعل بعد مضي فترة قصيرة على إحداثه، ركيزة أساسية من ركائز السلطة التشريعية في بلادنا بما أضفاه من حيوية على العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. وتقديرا منا لدور الأحزاب في الحياة السياسية، وبناء على ما جاء في بيان السابع من نوفمبر 1987 من أن شعبنا جدير بحياة سياسية متطورة، بادرنا في تعديل الدستور في 27 أكتوبر 1997، بإدراج الأحزاب السياسية في الدستور وإقرار دورها في تأطير المواطنين. وقد حرصنا على أن تنظم هذه الأحزاب على أسس ديمقراطية وعلى احترام سيادة الشعب وقيم الجمهورية وحقوق الإنسان والمبادئ المتعلقة بالأحوال الشخصية. ويمثل توسيع حقوق الإنسان ودعمها الجانب الأبرز في هذه التعديلات. فقد أعلنا في نص الدستور أن الجمهورية التونسية تضمن الحريات الأساسية وحقوق الإنسان في كونيتها وشموليتها وتكاملها وترابطها، مؤكدين بذلك أهمية احترام هذه الحقوق. كما أعلنا أن الجمهورية التونسية تقوم على مبادئ دولة القانون والتعددية وتعمل من أجل كرامة الإنسان وتنمية شخصيته. وإن ما ورد في الفصل الخامس من الدستور هو من جوهر المبادئ التي تضمنها بيان 7 نوفمبر 1987 وبذلك يرتقي دستورنا إلى مستوى دساتير الدول المتقدمة في العالم في مجال تكريس حقوق الإنسان والحريات العامة. ولما كان قيام المجتمع المتضامن المتوازن خيارا حضاريا في المشروع المجتمعي للتحول، فقد أعلن الفصل الخامس من الدستور أن الدولة والمجتمع يعملان على ترسيخ قيم التضامن والتآزر والتسامح بين الأفراد والفئات والأجيال بما يجعل من التضامن مبدأ دستوريا مهما. حضرات السادة والسيدات، يتزامن الاحتفال بالذكرى الخمسين لإعلان الدستور هذه السنة مع إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في شهر أكتوبر القادم تكريسا لدورية الانتخابات التي نص عليها الدستور. ونحن نغتنم هذه المناسبة لنؤكد حرصنا على أن تجري هذه الانتخابات في كنف الديمقراطية والشفافية التامة حتى يتمكن الناخبون من اختيار ممثليهم بكل حرية. وإننا ندعو الأحزاب السياسية ومختلف الأطراف الفاعلة في المجتمع المدني إلى العمل على إنجاح هذه الانتخابات حتى تكون محطة سياسية مهمة ونقلة نوعية متجددة في مسارنا الديمقراطي التعددي خاصة وقد عملنا من خلال مختلف التعديلات التي أدخلت على المجلة الانتخابية و خرها تعديل 13 أفريل 2009 على ضمان المساواة بين المترشحين وحسن سير العملية الانتخابية. حضرات السادة والسيدات، إن الدساتير مهما تضمنت من مبادئ سامية وقواعد محكمة، فإن علويتها تكمن أساسا في اقتناع الساهرين على تنفيذها بضرورة احترامها وعدم تجاوزها، لأن في احترامها سلامة للسير العادي لدواليب الدولة وضمانا للعدل بين المواطنين. ويشهد التاريخ في مختلف الدول أن بعض الدساتير المكتوبة تلاشت واندثرت وطواها النسيان لأنها لم تُحترم، في حين ظلّ من الدساتير العرفية ما هو قائم إلى اليوم. لذلك عملنا ولا نزال على احترام علوية الدستور من خلال الالتزام التام بآراء المجلس الدستوري وضمان الحريات والحقوق الأساسية للمواطن. إنّ ضمان علوية الدستور مسؤولية جسيمة نتحملها بكل أمانة لأنه لا شرعية خارج شرعية الدستور ولا ديمقراطية خارج قواعد الدستور. فدولة القانون هي في الأساس دولة احترام الدستور، قانون القوانين الضامن للحقوق والحريات. وعلينا جميعا، في مختلف المواقع، أن ندرك الأبعاد العميقة لمبادئ الدستور لتكون المحددة لسلوكنا في كل ما نتخذه من قرارات. وإننا واثقون بأنّ هذه الندوة التي تنظّم في مقرّ مجلس النواب الذي كان له شرف احتضان أعمال المجلس القومي التأسيسي منذ خمسين سنة، ستمكن من مزيد التعريف بمبادئ الدستور والتعمّق فيها بما يسمح لجيل اليوم والأجيال القادمة بمزيد التعلّق بالقيم النبيلة التي يرتكز عليها. وفي الختام، أتمنى لأعمالكم التوفيق والنجاح. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.