كل المؤشرات تؤكد ان الامريكيين يريدون من فضيحة تعذيب الاسرى العراقيين ان تكون قضية معزولة، وان لا تترك تأثيرا على مستقبل الاحتلال الامريكي للعراق وكذلك على حملة اعادة انتخاب بوش لفترة رئاسة ثانية. توجه كان ملفتا للانتباه سواء على مستوى تعاطي الإدارة الامريكية وكذلك الاعلام. فالرئيس الامريكي وعلى الرغم مما يواجهه وزير الدفاع، الا انه تعامل معه بطريقة مبالغ فيها عندما أراد ردّ الاعتبار له ازاء دعوات الاستقالة او الإقالة الصادرة عن جهات أمريكية عديدة فقد كان يتوجه له، في مقر وزارة الدفاع الامريكية، بطريقة مسرحية أثارت سخرية الامريكيين انفسهم، حين قال له: «انك وزير دفاع عظيم، وانك تقوم بعمل رائع، وان الأمة مدينة لك. وهذا «الغزل» يبدو في غير محلّه، خاصة في ضوء فضيحة تعذيب الأسرى العراقيين التي لم تتوقف عن التفاعل، يوما بعد يوم وعن البوح بمزيد صور العار والنازية. التوجه لمحاصرة هذه القضية، ظهر ايضا في وسائل الاعلام الامريكية، وخاصة عبر عمليات سبر الآراء حيث الاجماع على ان المسألة معزولة وانها تلزم العسكريين الذين قاموا بها ولا تلزم السياسيين سواء منهم وزير الدفاع وكبار العسكريين او الرئىس الامريكي نفسه وان هذه الصور لم تغيّر من مواقف الديمقراطيين او الجمهوريين وان التأثير الوحيد حتى الآن هو على مستوى المترددين الذين اصبحوا يمليون أكثر الى رفض الحرب.. وتعامل الإدارة الامريكية مع هذه القضية، على الرغم من التوجه العام لاعتبار الفضيحة مجرد عمل معزول، انما يؤكد ان العمل لم يكن معزولا فعلا، فالإدارة كانت على علم بهذه الممارسات منذ اكتوبر الماضي، اي منذ حوالي الثمانية أشهر، ثم ان البعض من «المتهمين» وعددهم، حسب الامريكيين سبعة عسكريين قال ان عملهم، والتحقيق مع الاسرى كان يفترض تلك الممارسات. وقد اكدت تقارير امريكية انه كان يسمح رسميا باللجوء الى التعذيب عند التحقيق مع سجناء المعتقل الامريكي في قاعدة غوانتنامو ذلك المعتقل الذي نُقل مديره الى معتقل ابو غريب الآن.وحسب الصليب الأحمر الدولي، فان موظفيه قد وقفوا خلال زياراتهم الى المعتقلات الامريكية، على حالات عديدة للتعذيب وسوء المعاملة، وتجاهل الاوضاع القانونية للاسرى التي تنصّ عليها معاهدات دولية... بما يؤكد ان فضيحة تعذيب الأسرى ليست محدودة في الزمان او المكان، او مقتصرة على سبعة عسكريين امريكيين فقط، هؤلاء الذين يتحدث عنهم الإعلام الامريكي اليوم باعتبارهم المسؤولين عما حدث. وقد بينت التقارير ان الجنود البريطانيين نفسهم قد مارسوا ممارسات مماثلة بما يؤكد ان التعذيب وسوء المعاملة هو القاعدة في المعتقلات الامريكية بالعراق. وفي الحقيقة فإن مثل تلك الممارسات لم تكن مستغربة ابدا. فذلك ما يحدث عادة وراء الجدران في محتشدات الاحتلال، اي احتلال وخاصة احتلال العراق، الذي كان آخر اجراء في مسيرة ظلم وتحرّش بهذا البلد، امتدت على سنوات عديدة.. هذه الفضيحة، لا تبدو وقد اثّرت في موقف الإدارة الامريكية من احتلالها للعراق، بل ان هذه الإدارة قد رفضت طلبا «رمزيا» بتدمير سجن ابوغريب، اطلقه امريكيون ردّا على هذه الفضيحة (وهو في حقيقة الامر، موقف ساذج من قبل هؤلاء لان القضية تتجاوز سجن ابوغريب). كما ان هذه الإدارة تواصل الإصرار على بناء «العراق الحرّ والديمقراطي» رغم كل ما يحدث من خراب ودمار في هذا البلد، كما تواصل الرهان على شق متنفّذ من الشيعة لمحاصرة المقاومة العراقية، وخاصة المقاومة الشيعية الوليدة... وكل تلك الممارسات والمواقف تؤكد ان كل ما يحدث في العراق، انما يحدث باعتباره جزءا من سياسة امريكية معيّنة ازاء هذا البلد وان لاشيء قد تُرك للصدفة، باستثناء الكشف عن هذه الصور، والذي يمكن اعتباره الصدفة التي لم تكن في الحسبان. كل ذلك هو الاحتلال وقد كشّر في العراق، عن انيابه صراحة، فهل يمكن ان يتخلى الرئيس الامريكي عن وزير دفاع كان وراء التخطيط للاحتلال كما كان وراء تنفيذه؟ وهل يمكن التخلي عن التعذيب والوحشية في التعامل مع اشخاص هم الاسرى الذين تعتبرهم إدارة الاحتلال ارهابيين وعوائق أساسية امام انجاح سياسة «العراق الحرّ والديمقراطي»؟ ذلك هو عناد وغطرسة القوة. ولن يكون بإمكان الإدارة الامريكية التي تورطت، باحتلال العراق ان تتراجع وان تعترف بأن سياستها تقود العراق والعالم الى مأزق خطير، والى كارثة انسانية بكل المقاييس. لقد أشار احد الكتّاب الامريكيين الى ان عناد الإدارة الامريكية إبّان حرب فيتنام، ورفضها تأمّل الحقيقة كما هي، قد ادى الى مقتل 58 الف جندي امريكي، وما بين مليونين وثلاثة ملايين فيتنامي. فهل ينبغي ان يكون ذلك هو الثمن الذي يدفعه الشعب العراقي الذي فقد بعد مئات الآلاف من ابنائه بسبب الحصار والحربين الامريكيتين ضده حتى تقنع الإدارة الامريكية اي ادارة بأنها عاجزة عن فرض رؤيتها للديمقراطية على شعوب ترفض ان يتم تشكيلها او ان تكون هنودا حمرا لهذا العصر؟ وهل تدرك الإدارة الامريكية، ان كل فعل يفترض رد فعل وان هذا الاحتلال سيولّد مقاومته بالضرورة؟