تونس الشروق : الاجتهاد أداة أقرّها الله سبحانه وتعالى في مجال الفقه ليتسنى للفقيه المجتهد البحث بواسطتها في أمور الدنيا والدين للمسلمين. ولأن سمة العصر التجددّ والتبدل والتغير فقد طرأت على حياة المسلمين مسائل كثيرة منها ما يتعلق بالمعاملات ومنها ما يختص بأحوال أمّة محمد ے في بلاد الاسلام وغيرها. وهنا يأتي دور المجتهد في القيام بدوره الذي فرضه ا& عليه. ومن هذه المسائل الحديثة مسألة العولمة التي قيل عنها الكثير. فهل يوحّد الاجتهاد صفوف المسلمين في مواجهة تحدّيات العولمة؟ طرحنا هذا السؤال على عدد من الاساتذة هم السادة: صالح الدّاسي وعثمان بطيخ وعبد الحميد عبد المنعم مدكور واسماعيل الحسني الذين التقتهم «الشروق» على هامش مشاركتهم في اشغال ندوة «مناهج الاجتهاد عند الشاطبي وابن عاشور والفاسي» في اطار جامعة الوعاظ التي نظمها المعهد الاعلى للشريعة يومي 4 و5 أكتوبر الجاري بأحد نزل المنستير. الاستاذ عثمان بطيخ (جامعة الزيتونة): العولمة أمر واقعي وواجبنا التعامل معها بعقل وتمحيص يؤكّد الاستاذ بجامعة الزيتونة السيد عثمان بطيخ على أن الاجتهاد أصل ثابت من أصول الشريعة الاسلامية ومرجع أساسي لعمل الفقيه المجتهد المطالب ببذل ما في وسعه بحثا عن حكم ا& تعالى في ما يعترضه من قضايا مختلفة متجدّدة ومتطورة ومتنوّعة. وبذلك كان الاجتهاد عنصرا لازما لخلود الاسلام وبقائه ثابتا صافيا ومسايرا لكل عصر ومصر، مثلما يقول الاستاذ عثمان بطيخ. ويضيف قائلا: «دور الاجتهاد في حياة الأمّة الاسلامية كبير جدا لأنه وسيلة او طريقة علمية لاعمال العقل في كل مستجد او مستورد. إذ يجب على المسلمين ألا يتلقوا من الآخر شيئا من غير اعمال العقل او النظر فيه... نعم الاجتهاد يوحّد صفوف المسلمين وأنا اعتبره واجب وضروري. فحين يعرض على المسلمين أمر من خارج الأمة فيجب الا يعرضوا عنه ويرفضوه بل أولا يجب البحث فيه والنظر في كل ما يتعلق به. وقد قال الرسول ے «اطلب العلم ولو في الصين» وكان يشير بوضوح الى ضرورة التعامل مع الاخر الاجنبي واخذ المعرفة عنه. كما استحضر ما قام به الرسول ص مع عدد من الاسرى حين عرض عليهم فكرة اطلاق سراحهم بشرط ان يعلّم الواحد منهم عشرة من المسلمين. وهذا دليل على الاخذ من الغير علومه ومعارفه بما لا يتصادم مع العقيدة. وكذا الامر بالنسبة الى العولمة التي صارت أمرا واقعا. الاستاذ اسماعيل الحسني (جامعة القاضي عياض مراكش): منهجية القطيعة مع الآخر تضرّنا اكثر ممّا تنفعنا... يذكر الاستاذ اسماعيل الحسني من كلية الاداب والعلوم الانسانية جامعة القاضي عياض بمدينة مراكش المغربية أن الاجتهاد فرض لازم للمسلمين وواجب عليهم متى توافرت شروطه واستكملت أدواته. ويضيف قائلا: «فعلا الاجتهاد يوحّد صفوف المسلمين في مواجهة التسارع التكنولوجي العظيم الذي يزداد يوما بعد يوم والذي لا تستطيع الأمة الاسلامية ان تلحق به الا بالجهد الكبير والتطوّر العظيم، لذلك وجب علينا كمسلمين الالتحاق بهذا التطور بالوحدة والتكتل والتآزر ونبذ التفرقة أو الاختلاف. وفي رأيي فإن عديد القضايا العالمية قد غزت المجتمع الاسلامي وواجب علينا ان نبحث فيها ونجد لها الحلول والكيفيات المناسبة للتعامل معها. علينا كمسلمين أن نفهم حقيقة هذه العولمة والادوات والشروط الحضارية التي سبقت ولحقت بهذه الظاهرة الكونية. بعد ذلك يتأهّل أهل الاجتهاد ويقع التقريب بين آراء الفقهاء والمجتهدين واعتماد سلوك منهجية الحوار وتقبّل الاخر سواء أكان مخالفا لنا في الملّة او موافقا ولكن نختلف معه في الاراء السياسية. إن منهجية القطيعة مع الآخر تجرّ علينا من المفاسد اكثر ممّا تجلب لنا من المصالح. ولكن في كل الحالات يجب ألا نطأطئ رؤوسنا ولا نستكين بل نأخذ من العولمة ما ينفعنا ونترك ما يتعارض مع عقيدتنا ومصالحنا. الاستاذ عبد الحميد عبد المنعم مدكور (جامعة القاهرة مصر):: الضغط الخارجي هدفه اقصاء الشريعة الاسلامية... يرى الاستاذ عبد الحميد عبد المنعم مدكور من كليّة دار العلوم جامعة القاهرة انه ينبغي على علماء المسلمين أن يعتبروا اجتهادهم عاملا من عوامل وحدة الأمة، وجمع كلمتها على الحق وامدادها بوسائل القوّة والمناعة الفكرية التي تجعلها مستعصية على عوامل الضغط التي تأتيها من خارج العالم الاسلامي. ويضيف قائلا: «هذا الضغط الخارجي من غير الأمة الاسلامية الغاية منه اقصاء الشريعة عن حياة المجتمعات الاسلامية، وتحويل الاسلام الى دين يُعنى بالروحانيات أو بالمسائل الفردية وحدها. كذلك اقصائه عن مسائل المعاملات والحياة الاجتماعية بصفة خاصة. ويتحقق هذا عند هؤلاء العلماء اذا ما استحضروا وطبّقوا ما دعا اليه الاسلام من الاعتصام بكتاب ا& وسنّة رسوله وما حذّر منه من الفرقة في الدين ومن التنازع الذي يؤدّي الى الفشل والتقهقر والضعف بصفة عامة، وهو ما لا يتفق مع الكرامة التي ينبغي ان تكون للأمة الاسلامية التي اختارها ا& تعالى لحمل أمانة الرسالة الاخيرة الى البشرية جمعاء. وعليهم ان يستحضروا أيضا أن يكون اجتهادهم مقصودا به طاعة ا& تعالى وتوقير احكامه وتحكيم شريعته مع الابتعاد عن الأهواء والاغراض التي تحول بينهم وبين طلب الحق والدعوة اليه. ثم عليهم ان يتنبهوا الى تلك المخاطر الكثيرة التي تتعلق بقيم الشريعة وهوية الأمة ومصالحها المهدّدة من قبل خصومها الذين يريدون لها ان تكون تابعة في كل حياتها لما يأتي إليها من وراء الحدود وهم يستعينون على ذلك بأدوات الاعلام ومناهج التعليم والتهديد بالعقوبات الاقتصادية والوصول الى حد العدوان المباشر والصريح دون حياء أو مراعاة لحقوق الأمم. فإذا استحضر العلماء المجتهدون ذلك كانوا عاملين على حصانة الأمة في دينها وقيمها ومصالحها بما يحقق لها القوّة والسيادة والكرامة اللائقة بها بين الامم جميعا». ويختم الاستاذ عبد الحميد عبد المنعم مدكور قائلا: «الاجتهاد ضرورة دينية وليس فقط ضرورة اجتماعية لأنه يتعلق بعمومية الشريعة الاسلامية وصلاحها لكل زمان ومكان، فإذا جدّ من الوقائع والحوادث والنوازل ما يستدعي حكما شرعيا فإن على العلماء المجتهدين ان يجتهدوا لمعرفة حكم ا& تعالى في هذه الحوادث الجديدة وإن لن يفعلوا ذلك فإنهم مقصّرون لأن ذلك يوهم بأن شريعة ا& ليست عامة ولا شاملة مع إنها بالفعل عامة وشاملة. الأستاذ صالح الداسي (جامعة الزيتونة) : الاجتهاد يجب أن يكون غربلة لما هو معروض على المسلمين يعتبر الأستاذ بجامعة الزيتونة السيد صالح الدّاسي أنه لا اجتهاد مع الانغلاق ودون الحوار مع الآخر. ويضيف قائلا : «لا اجتهاد دون محاولة معرفة ما عند الآخر. وهذا يقتضي أدبا أخلاقيا في التعرّف على الآخر كحسن المعاملة واحترام الآخر عقائديا وعلميا وجنسيا والتحاور معه دون اتهامه مسبقا، وأيضا القدرة على فهم الآخر وذلك بمعرفة لغته ومعرفة المصطلحات التي يسير وفقها، وكذلك معرفة ما عنده من معرفة، ثم العمل قدر المستطاع على الاستفادة منه لأننا إذا لم نستفد من الآخر لا تتوسّع ملكاتنا كما لا يمكن أن نجد أرضية للتقارب بين بعضنا على المستوى العلمي والمعرفي. وهذا التقارب بدوره يؤسس للتعايش السلمي، وما إيجاد الملتقيات الدولية والاقليمية وتنوّعها واختلافها إلا خير دليل وشاهد على الرغبة في التعامل مع الآخر وتحقيق الاستفادة منه». ويواصل الأستاذ الداسي قائلا : كلّما توسّعت معارفي على الآخر كلّما استطعت فهم كلام الخالق لأنه (القرآن) جاء للناس جميعا بل للإنس والجن، فالخطاب القرآني لم يأت للمسلمين فحسب وليس للعرب فقط بل للناس كافة. قال تعالى : {وأرسلناك للنّاس كافة}. فالرسالة المحمدية رسالة كونية لا تقصي أحدا من الانس أو من الجنّ فهي رسالة كونية، بل إن القرآن جاء يخاطب كل المخلوقات (سورة البقرة الفيل العنكبوت النحل النمل..)، وإذا عجز الانسان عن فهم علوم غيره وهو أخ في الانسانية فهو عاجز عن فهم كلام المولى عزّ وجلّ. ويضيف قائلا : «العلم يوحد بين الشعوب مثلما يوحّد الاجتهاد بين المسلمين. وهذا الاجتهاد يجب أن يكون غربلة لما هو معروض علينا، فلا نأخذ علوم الآخرين مسلّمة بل نبحث فيها ونتحاور حولها ونتدبّرها وهكذا نستفيد منها وتتوسّع دوائر المعرفة وملكاتها لتحقيق الرفاه لسكان الكون. فالعلم أو العولمة العلمية وحّدت البلدان الغربية وقضت على العنف والكراهية. تضامن وأخوة بقلم : يونس بن يوسف (معلّم تطبيق سيدي عامر) قال الملك القدّوس : {ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوقّ شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر : 9). كان السّلف الصالح رضوان اللّه عنهم يتعاونون في السرّاء والضرّاء، ويتضامنون في النعماء والبأساء، حتى ينسى المعوز منهم حاجته والملهوف لهفته، فعاشوا متحابّين، متآخين، قلوبهم صافية وأرواحهم زاكية. قال سيّدنا محمّد ے : «لأن أمشي مع أخ في حاجة أحبّ إليّ من أن أعتكف في مسجدي شهرا». (حديث شريف). إنّ كل فرد من أفراد المجتمع (وخاصة الموسرين) مدعوّ الى التضامن والتكافل مع أخيه وذلك بمدّ يد المساعدة إليه وذلك في المناسبات الدينية والوطنية (شهر رمضان، الأعياد والمواسم، العود الى المدارس، التبرّع بالدّم، الكوارث والملمّات..). قال الإمام علي كرّم اللّه وجهه : النّاس للنّاس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدمُ قال معن بن زائدة : كونوا جميعا يا بنيّ إذا اعترَى خطب ولا تتفرّقوا أفرادا تأبى العصيّ إذا اجتمعن تكسّرا وإذا افترقن تكسّرت آحادا وقال بزرحمهر حكيم الفرس: .. اصطنعت الإخوان، وانتخبت الأقوامَ، للعدّة والشدّة والنائبة، فلم أرَ عندهم شيئا أخير من الكرم، وطلبتُ الغنى من وجوهه، فلم أرَ أغنى من القنوع. تصدّقت بالذخائر فلم أرَ صدقة أنفع من ردّ ذي ظلالة الى هدى، وشيّدت البنيان فلمْ أرَ شرفا أرفع من اصطناع المعروف، ولبستُ الكسى الفاخرة فلم ألبس شيئا مثل الصّلاح، وطلبت أحسنَ الأشياء عند النّاس، فلم أرَ شيئا أحسن من حسن الخلق. وإن الإنسان باستقراء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم والأقوال يجدها توضّح طرق التكافل والتعاون والتضان. قال الملك القدّوس : {واعتصموا بحبل اللّه جميعا ولا تفرّقوا واذكروا نعمةَ اللّه عليكم إذ كنتم أعداءَ فألّف بينْ قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} (آل عمران : 103). وحصيف قول الشاعر : هم القوم إن قالوا أصابو وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أصابوا وأجزلوا الإيمان تصديق وعمل، ينعكس على سلوك المسلم في المجتمع بترسيخ قيم التآخي على العدل والتسامح والتعاون، فتتآلف القلوب ويسقرّ التعامل في كنف المودّة والاحترام. فالمؤمن شريف ظريف لطيف لا لعّان، ولا نمّام، ولا مغتاب، ولاحَسود، ولا حَقود، ولا مُختال، يطلب من الخيرات أعلاها، ومن الأخلاق أسناها، إن سلك مع أهل الآخرة كان أورَعهم، يزنُ كلامه ويحسن عمله. الإنسان لا يستطيع أن يعيش منفردا، فهو لا يقدر أن يقوم بمفرده بشؤونه كلّها، إذن فهو في حاجة واجبة للتعاون مع غيره. فالتضامن ينبغي أن يكون مبنيا عل الترّاحم والتّوادد والتّحابب (تقديم المصلحة العامّة على المصلحة الخاصّة، الصّدق في الحديث، الوفاء بالعهد، التعاون على البرّ وفعل الخير والإحسان إلى الغير..). قال الحكيم الخبير : {والمؤمنون والمؤمنات بعضُهم أولياءُ بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة ويُطيعونَ اللّه ورسوله أولئك سيرحمهم اللّه إنّ اللّه عزيز حكيم} (التوبة : 71). قال أحد الشعراء : هي حبّة أعطتك سبعَ سنابل لتجودَ أنت بحبّة لسواك العطاء الحقيقيّ هو أن يُعطي الإنسان من نفسه مع البشاشة وهذا العطاء يعدّ نعمة مضاعفة. وحصيف قول أبي تمّام : هو البحر من أيّ النّواحي أتيْته فلُجّتُهُ المعروفُ والجودُ ساحلُه تعوّد بسْطَ الكفّ حتى لو أنّه ثناها لقبض لم تطعْهُ أناملُهُ ولو لم يكن في كفّه غيرُ نفسه لجادَ بها فليَتّق اللّه سائلُه