تعود بي الذاكرة الى السبعينات عندما كنت مديرا بمدرسة سيدي عبد الباسط بماطر. في ذلك الوقت كان يعتمد كثيرا على المربين للقيام بعملية الاحصاء. وكنت واحدا منهم ومسؤولا على منطقة يغلب عليها الهضاب والجبال. وبقدر ما كان الوصول الى المساكن المشتتة صعبا بقدر ما كنت أستلذ أدائي لهذا الواجب الوطني مسليا نفسي بالمناظر الطبيعية الخلابة وبالطقس الربيعي الجميل الذي يدغدغ الوجدان وينسيني أتعاب وظيفتي الاصلية ذهنيا وبدنيا. وبينما كنت أردد (في المسارب) بعض الاغاني الخالدة بصوت خافت لعمالقة الفن العربي، وما ان اقتربت من كوخ من الاكواخ المبنية بالطين والقش حتى انطلقت نحوي مجموعة من الكلاب «تقسم» أنها ستفترسني في لحظات حتى وجدت نفسي من شدة الخوف الذي لا يوصف وبدون أن أشعر ولا أدري كيف حصل ذلك معلقا بين أغصان شجرة غابية أشواكها أكثر من أوراقها، والملفات مرمية على سطح الارض. وبقدر ما كنت أجهد نفسي على تحمل وخز الشوك لي بقدر ما كنت أتفاءل بقرب وقت الخلاص من هذه الورطة. وكنت أحمد الله على أني لم أكن بدينا وإلا حدث ما لا تحمد عقباه. وما هي إلا دقائق مرت عليّ كأنها ساعات حتى خرج لي السكان وأبعدوا عني الخطر المحدق بي بكل سهولة. وكانوا خجلين الى أقصى درجة عندما تعرفوا عليّ وهم يرددون: سي المدير... سي المدير هل أصابك مكروه... وكنت أجبتهم بالنفي والحال أني كدت أموت بسكتة قلبية. وبعد أن ساعدوني على النزول وعلى جمع ما تناثر من المطبوعات أبوْا إلا أن يكرموني قبل كل شيء بما أمكن لهم (والشيء من مأتاه لا يستغرب)، وتناولنا مع بعضنا الفطائر والعسل واللبن والشاي بالزعتر. وكنت من حين لآخر أتابع ردود تلاميذي الحفاة لعلي أستنتج بعض السخرية مما شاهدوه وعاشوه معي خاصة وهم يعتبرونني إنسانا خارقا للعادة وأقوى من جميع الحيوانات البرية، وقد حاولت أن أقلل من رعبي أمامهم وركزت على دور الرياضة في هذه المواقف المفاجئة وكيفية الخروج من المآزق. وما إن شرعت في الاستجواب حتى اعتقدوا بأني ملاك الرحمة الذي بعثه الله اليهم، وألحّوا في أن أجد لهم الشغل وأن أوفر لهم المسكن المحترم والنور الكهربائي والماء ووسائل النقل الخ... وكنت ببيداغوجية المربي وديبلوماسية الاذكياء أطمئنهم بحياة مشرقة في المستقبل القريب إن شاء الله وكأني صاحب الحل والربط، لا حول ولا قوة إلا بالله، وكما استقبلوني بكل حفاوة ودّعوني بكل أدب واعتذار. وانتشر خبر هذه الزيارة في المنطقة ووقع التركيز عليها من جملة عشرات الزيارات التي قمت بها. وكانت حديث الكبار والصغار، حديث العائلات في منازلهم والرعاة مع حيواناتهم والعمال والفلاحين في حقولهم وخاصة التلاميذ في المدرسة. ولا أخفي عليكم فقد كنت قاسيا مع بعضهم كلما استمعت بمبالغتهم لسرد الحقائق ولو أني كنت كلما أختلي بنفسي وأتذكر ما جرى تنتابني (نوبة) من الضحك تنسيني هموم الدنيا ومشاغلها. وتمضي الايام وها نحن الآن بعد ثلاثة عقود من هذه الحادثة في تعداد جديد في عهد جديد يتمنى للمواطنين العيش السعيد والعمر المديد. وفي الختام إن كُتب لي أن أواصل الكتابة في هذا الفضاء الذي أعتز به كثيرا وبالمشرفين عليه فلن يكون في المستقبل إلا مرة في الشهر حتى أفسح المجال لغيري وحتى أعمل بالحديث النبوي الشريف «زر غبّا تزدد حبّا». * الامضاء: المربي المتقاعد: عثمان الهيشري زاوية الجديدي (بني خلاد)