لأنّنا نحب رجال التعليم ونجلّهم ونقدّر تضحياتهم الجسام في سبيل تربية النشء وتعليمهم فإننا نستمع إلى شواغلهم ونكاشف أعماقهم في رحلة إنسانية يتحدثون خلالها عن أهم محطاتهم السابقة وأهم شواغلهم اللاحقة! واليوم نستقبل المربي الفاضل سالم بريك مساعد بيداغوجي متقاعد وإمام وخطيب يقطن بمدينة بومرداس من ولاية المهدية. فهل من فكرة مربينا الفاضل عن سيرتك الذاتية؟ وماذا يشغلك في حياتك الاجتماعية؟ يقول المربي سالم بريّك: لقد وقع تعييني بالتعليم في نوفمبر 1973 معلّما متربصا بمدرسة السعيدية باردو ولقد كنت أقوم بالتكوين البيداغوجي صباحا بمدرسة ترشيح المعلمين بالمرسى وأدرس مساء بالمدرسة المذكورة آنفا ووقع شفع هذه السنة بالحصول على شهادة ختم التربص وفي سنة 19741975 وقع تعيني بمدرسة عين الكرمة دائرة طبربة، مدرسة جبلية نائية تبعد عن مركز المعتمدية 20 كلم وتقع في قمم جبال الأنصارين ولقد قاسيت الأمرين وأنا في بداية شبابي حيث كنت صحبة معلّم من نفس المنطقة ومدير حينها وكنت أسكن داخل الفصل الذي أدرس به وقد وضعت ستارا يحجب فراشي عن مقاعد التلاميذ وأفتح نافذته على سفح جبل أجرد وعندما يرخي الليل ستاره يعود زميلي إلى منزله الذي يبعد بعض الكيلمترات وأبقى وحيدا في تلك المدرسة التي لا سياج لها، ولقد أضطرّ في كثير من الليالي أن لا أبارح القاعة التي هي مقر عملي حتى لقضاء حاجة بشرية خوفا من عواء الذئاب التي كنت أسمع طرقات أنيابها وهي متشابكة فيما بينها كنت أبقى في العادة أسبوعا كاملا لا أطبخ إلا عجين «المقرونة» الذي هو غذائي وعشائي وفطور الصباح وفي غالب الأحيان أتناول خبز الأسبوع مبللا بالماء. ومن سنة 1975 إلى 1985 انتقلت إلى مدرسة الجديدة حيث تفانيتُ في خدمة الناشئة وكنت أدرس السنة السادسة وأحصل على نتائج كانت لي بمثابة مقابل ما سهرتُ فيه الليالي في إعداد دروسي اليومية وبقيت بهذه المدرسة عشر سنوات لم أتغيب فيها إلا عند ولادة طفلي. ومن سنة 1985 إلى 1987 انتقلتُ إلى مدرسة كركر 2 مارس وكنتُ أدرّس السنة السادسة كالعادة كنت أتحصل على أحسن النتائج حيث جلب لي ذلك تقدير المسؤولين والأولياء ودعيتُ إلى الإدارة الجهوية لتكريمي. ومن سنة 1987 إلى 1999 انتقلت إلى مدرسة بومرداس وواصلتُ نفس التفاني في خدمة السنة السادسة ولعلّ ما جلب انتباهي عندما كان الأولياء في بداية كل سنة دراسية يحاولون أن يكون أبناؤهم بالفصل الذي أدرسه وإني أذكر أن بعضهم يجبرون أبناءهم على البقاء بالمنزل ما إن لم يستجب مدير المدرسة إلى نقلتهم إلى القسم الذي أديره. وما يشهد به الأولياء والسلط المحلية إلى يوم الناس هذا أني أدرّس أكثر من الوقت المخصص للتعليم، كنت ألتحق بالمدرسة السادسة والنصف صباحا وأبارحها في السادسة والنصف أو بعدها مساء ولا أريد جزاء ولا شكورا غايتي هي كسب محبة تلاميذي والأولياء معا، ولا هم لي إلا أن أرى الناشئة ترتقي درجات العلم وتحقق النتائج التي أرتئيها وتم لي ذلك حيث أرى فيهم الآن إطارات تقوم بعملها لرفعة تونس فمنهم الطبيب ومنهم الأستاذ الجامعي ومنهم المربي ومنهم المندوب الجهوي في ميدان التعليم. إلخ... ومن سنة 1999 إلى 2001 وقع تعيني مدير مدرسة ابتدائية بأولاد امحمد بومرداس ولقد أحسنتُ إدارتها كما يجب أن يكون وكنتُ محل احترام من طرف المسؤولين والإطارات الجهوية. ومن سنة 2001 إلى 2003 وقع تعيني مدير مدرسة منزل حمزة دائرة بومرداس هنا أيضا كنت كفءا للمسؤولية وحُزْتُ ثقة الأولياء والمسؤولين كالعادة. ومن سنة 2003 إلى 2008 وقع تعييني مساعدا بيداغوجيا لما لمست فيه الإدارة الجهوية للتعليم من كفاءة بيداغوجية ومثالا للإرشاد البيداغوجي وكالعادة كنتُ ملتزما بمسؤوليتي ومنضبطا أخلاقا وعملا وأحرزتُ على تقدير زملائي الذين أزورهم في أقسامهم وأوجههم إلى ما فيه منفعة المربي. وفي بداية ديسمبر 2008 وقع إحالتي على شرف المهنة وبهذا انتهتْ رحلتي بالتعليم وحين قيّمتُ شخصيا عملي طيلة 35 سنة عملا دؤوبا لاحظت بشهادة المسؤول والولي أني تفانيتُ في عملي وعلمتُ أنني لم أتخلّف على أداء رسالتي التربوية طيلة ثلاثة عقود ونصف ولو شهرا واحدا حيث لم أتمارض ولم أتلكأ وحققت نتائج أفتخر بها وتقرها إدارة التعليم وكان ديدني في هذا كله خدمة وطني الذي لا ولن أتأخر عن خدمته حتى آخر رمق لي في الحياة. وفي نهاية هذه الرحلة الطويلة مع العمل التفتُ إلى نفسي ورأيتُ أني أنجبت ولدا و4 بنات، فالأول تحصل على الأستاذية في التجارة الدولية في دورة جوان 2004 والبنت الثانية تحصلت على شهادة تقني سام في التصرف في المؤسسات 2005 والثالثة تحصلت على الأستاذية في الجغرافيا 2010 والرابعة تحصلت على الإجازة الأساسية في الفرنسية 2010 أما الأخيرة فهي طالبة طب بكلية المنستير سنة ثالثة ثم كان المرض الذي أنهكني وزوجتي أيضا مريضة حيث تتردد على المسشفى بالمواعيد. إن هؤلاء الأبناء تحصلوا على شهائهم الجامعية ويقبعون في المنزل لا بل ما يحزّ في نفسي و ممّا يجعلني أتجرع المرارة عندما كنتُ أزور بعض المعلمين قصد إرشادهم وتأطيرهم وألاحظ أنهم يحملون نفس الشهادة التي هي بحوزة أبنائي لا بل قل هناك من تحصل على هذه الشهائد بعد أبنائي والفرق يا سيدي بين هؤلاء وأبنائي أن منظوري يعانون البطالة والغير دون مناظرة يعملون بالتعليم. واليوم كاتبتُ كل المسؤولين من معتمد إلى والي إلى السيد الوزير والمؤلم جدّا أني عندما حاولتُ مقابلة السيد وزير التربية لأشكو له حاجتي وقع طردي من طرف الحاجب. ولقد صرخت في وحدتي قائلا هل هذه هي نتيجة إخلاصي في العمل؟ وهل هذا هو جزائي بعدما تخرجت على يدي إطارات تتقد كفاءة في خدمة تونس الحبيبة. فإلى من يسمعني أقول ماذا عساي أن أعمل؟ إنّ ألمي عظيم وخطبي كبير لا بل قلْ لا أقدر حتى على إخراج الآهات عند كل مطلع شمس وعند رؤية أبنائي خريجي الجامعة ولا يشتغل أي واحد منهم وللعلم لم أجد بابا إلا وطرقته ولا إجابة؟ لقد عجزت على مصاريفهم وقد تجاوز كبيرهم الثلاثين سنة فهل من لفتة إلى مربي متقاعد بعين الرحمة. أخيرا لم يشفع لي كل ما ضحيتُ به من جهد وها أنا اليوم أقف على منبر المسجد أواصل رسالتي لتعليم الفقه وأبلّغ ما جاء به ديننا الحنيف وما أمرنا به سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم. وآخرها فإني ألتمس النظر إليّ بالرحمة من كل مسؤول من السلط وأولي الأمر لهذا الوطن العزيز كما لا أنسى أني قبل كل شيء وكلّتُ أمري إلى الله فهو نعم المولى ونعم النصير.