بين تركيا واسرائيل تزدهر هذه الأيام لعبة شد الحبل.. وتدور حرب غير معلنة ظاهرها قضية فلسطين والتجاوزات الصهيونية في حق الشعب الفلسطيني.. وباطنها «التجاوزات» الاسرائيلية في كردستان العراق الذي بات يحكم التداعيات المعروفة «منطقة نفوذ» تركية بحكم حساسية تركيا لكل كبيرة وصغيرة تجدّ في هذا الاقليم المحاذي للمناطق الكردية التركية التي ينشط فيها حزب العمال التركي. من علامات هذه «الحرب» التي تخاض بلا جيوش ولا سلاح تكرار التذمّر التركي من التجاوزات الصهيونية والفظاعات التي يرتكبها جيش الاحتلال الاسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني.. وهو تذمر بدأ بصدور تنديد شديد من وزير الخارجية عبد اللّه غول.. ومرّ بدعوة السفير التركي باسرائيل إلى بلاده ل»التشاور» ليصل ذروته يوم أمس بدخول رئيس الوزراء التركي الطيب اوردوغان على الخط وتأكيده بأن السياسات الاسرائيلية في الأراضي المحتلة تغذي مشاعر معاداة السامية في العالم. وكل هذا الكلام جميل ودقيق.. لكن لا أحد منا يصدق بأن القادة الأتراك ناموا وأصبحوا ليكتشفوا هذا الوجه القبيح لاسرائيل وهم الذين تجمعهم بهم منذ فترة علاقات استراتيجية متطورة جدا.. جدا؟ فماذا حصل إذن؟ ما حصل أن الصهاينة استساغوا الوضع الجديد الذي خلقه احتلال أمريكا للعراق ووجود 140 ألف جندي أمريكي في المنطقة وحدثتهم أنفسهم بأنهم باتوا في غنى عن «خدمات» الحليف التركي وانه بامكانهم ترتيب الأوضاع بما يخدم مصالحهم هم فقط في العراق عموما وفي شمال العراق تحديدا ولو أدى بهم الامر الى اللعب في ملعب تركيا أو الاضرار بالمصالح التركية.. وقد كانت الحكومة التركية على وعي تام بخيوط اللعبة الصهيونية في العراق والهادفة في الأخير الى انشاء دويلة يهودية في كردستان العراق تكون قاعدة متقدمة تستخدمها في صراعها الاستراتيجي والمصيري مع ايران. وقد لاذت تركيا ب»ضبط النفس» وقررت الى حين الاكتفاء بمتابعة فصول اللعبة الصهيونية مراهنة على عناصر أخرى عراقية واقليمية ودولية قد تتدخل في اللحظة الحاسمة لإجهاضها.. لكن في الأثناء جدت أحداث دفعت أنقرة للخروج عن صمتها ومهاجمة اسرائيل بسبب سياساتها في فلسطينالمحتلة دفاعا عن مصالحها في كردستان العراق وذلك تطبيقا للمبدإ القائل بأن «أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم».. ذلك أن المخابرات التركية التي ضللت في البداية بخصوص تفجيرات اسطمبول والتي استهدفت منشآت يهودية واتبعت خيوط الجماعات المتطرفة قد اكتشفت في نهاية المطاف بصمات وأصابع الموساد الاسرائيلي في هذه التفجيرات ربما بهدف مزيد ابتزاز تركيا وجعلها تشعر بعقدة ذنب وتقبل بالترتيبات الاسرائيلية في شمال العراق من باب «التكفير عن الذنب» كما تفعل دول أوروبية عديدة مع اسرائيل الى الآن تكفيرا عن «أخطاء» جدت في أربعينات القرن الماضي.. لقائل أن يقول: تلك هي لعبة الأمم.. لكننا نقول ألا يكفي الشعب الفلسطيني مآسيه ومعاناته ونكباته وما يتعرض له على أيدي آلة الحرب الصهيونية ليصبح فوق هذا وقودا للعبة الأمم ومطية لتصفية الحسابات؟.. والا يكفيه من تاجر وسمسر بقضيته من أشقائه العرب على مدى عقود ليصبح محل متاجرة من قبل الاخوة المسلمين. إن القادة الأتراك محقون في كل ما قالوه عن ممارسات اسرائيل وانتهاكاتها للحقوق الفلسطينية.. ومحقون أيضا في ما اتخذوه من اجراءات ضد اسرائيل.. والصهاينة مذنبون ومخطئون في حق الشعبين الفلسطيني والعراقي.. لكن فلسطين والعراق ليسا ساحتين لصراعات النفوذ ولتبليغ الاشارات والرسائل. نحن نريد موقفا حازما من تركيا صاحبة الوزن الثقيل اقليميا ودوليا، ولكننا نريده موقفا مبدئيا يقف مع الحق والعدل والشرعية الدولية ويرفض الانخراط في لعبة المتاجرة بقضية شعب يدفع ضريبة الدم فداء لحريته وانعتاقه.