كان القرن العشرون في بداياته مسرحا للعديد من الاحداث الجسام، فقد شهد تحولات جذرية وتغيرات عميقة شملت كافة أوجه الحياة الفكرية والثقافية والعلمية والسياسية والاجتماعية الخ، ونتج عن تلك التحولات والتغيرات بزوغ عديد الاتجاهات والتيارات في كل مناحي وتجليات النشاط الانساني، ومنها بالطبع النشاط الفلسفي. ولان القرن العشرين كان قد افتتح بظهور نظريتين شاملتين في مجال الفيزياء: وهما نظرية الكم لماكس بلانك، ونظرية النسبية الخاصة والعامة لاينشتاين كان لهما اكبر الاثر في تغيير بنية العلم فقد اتسم النشاط الفلسفي بالطابع العلمي والتحليل اللغوي والمنطقي للعبارات العلمية وساد خلال الربع الثاني من القرن العشرين تيار فلسفي رئيسي في فلسفة العلم اطلق عليه اسم »التجريبية المنطقية« او حركة الوضعية المنطقية التي تبنت وجهات نظر تميزت بالاعتماد الكبير على تقنيات المنطق الرياضي في صياغة اطروحاتها والتعامل مع مشكلاتها فأعلنت ان فلسفة العلم (بل والفلسفة بصفة عامة) ليست سوى منطق للعمل، واعتبرت ان »المهمة الوحيدة التي ينبغي ان تضطلع بها الفلسفة هي التحليل المنطقي« وأنّ وظيفة التلحيل المنطقي هي »تحليل كل المعرفة، وكل تقريرات العلم والحياة اليومية، كي توضح معنى كل تقرير من هذه التقريرات والروابط التي تنشأ بينها الا ان هذه الاطروحة العامة للوضعية المنطقية التي حاولت حل مشكلات فلسفة العلم من خلال تطبيق تقنيات المنطق الصوري، وماهو مثيل له جعلت الوضع المنطقي يفقد صلته الوثيقة بالعلم، وتعرض لاتهام ان مناقشاته اضحت تتسم بعدم ملاءمتها للعلم الحقيقي وحتّى لو كان هذا الانتقاد مبالغا فيه أحيانا، إلاّ انه بالتأكيد صحيح الى حد ما، وخاصة فيما يتعلق بتورطهم في تفصيلات منطقية (وهي غالبا ما تكون مناقشة سطحية لا تمت إلى العلم باية صلة) وفي اخفاقهم (أو رفضهم) الالتفاف الى المسائل التي تدور حول التطور التاريخي للعمل الواقعي. ولقد انبرت الوضعية المنطقية خاصة لاستبعاد الميتافيزيقا من مجال الفلسفة عن طريق معيار التحقيق الذي وفقا له لا يتجدد المعنى الواقعي لعبارة ما الا من خلال تحقق هذا المعنى وهكذا فقد جعل الوضعيون المناطقة معيار التحقق جزءًا لا يتجزأ من نظرية المعنى عندهم ونظريتهم في المعنى تفرق تفريقا حاسما بين ما يحمل معنى نظريّا او »معرفيّا« وبين الفارغ من المعنى النظري او الذي »يفتقر« الى المعنى المعرفي ونظرا الى انهم اخفقوا في جعل »القضية التجريبية« تحقق بشكل حاسم، فقد اعلنوا مبدأ امكانية التحقّق والفكرة الرئيسية التي تكمن في مبدأ امكانية التحقق هي أنّ »القضايا التي تعلن انها تقرر شيئا ما عن العالم الواقعي على عكس القضايا القبلية / التحليلية، التي تكون صادقة في أي عالم ممكن تكون ذات معنى اذ او فقط اذا كانت ثمة ملاحظات ممكنة وتكون نتيجتها موافقة لصدق او كذب القضية« بيد أنّ هذا المعيار قد افضى إلى طريق مسدود لانه لا يؤدي إلى استبعاد العلم الامبريقي نفسه، وهو ذلك العلم الذي تستند اليه الوضعية المنطقية في أطروحاتها، حيث ان قضايا العلم الحديث لا يمكن ان تضخع إلى الملاحظة. ❊ لا حدود فاصلة وهكذا، فإنّ المحاولة التي اضطلع بها الوضعيون لصياغة مبدأ التحقق وذلك للفصل بين القضايا العلمية من ناحية والميتافيزيقية من ناحية اخرى لم تكن ناجحة تماما وذلك لعدم وجود حدود فاصلة تماما بين هذه القضايا خاصة اذا علمنا ان الفرضية باعتبارها قضية قد لا يستطيع العلم بوسائله المتوفرة أنّ يتثبت من صحتها وفسادها، ولكنها في الوقت ذاته تستطيع ان تقدم فائدة كبيرة لتطور العلم ولا يمكن اعتبارها مينافيزيقية وعليه فإنّ هذا المبدأ الذي اتخذته الحركة محورًا مركزيا في فلسفتها بغرض استبعاد الميتافيزيقا لم يكن قادرا على الاستبعاد الكلي لها مما فجر الخلافات الداخلية بين اقطابها وعجل أخيرا بتحليل الوضعية المنطقية بوصفها قوّة فلسفية مؤثرة والحقيقة انه مهما كان اتجاهنا نحو الوضعية المنطقية فلا سبيل الى الشك في أنّ هذه الحركة كان لها اسهامات جادّة في التحليل اللغوي والمنطقي بصفة خاصة ومناهج البحث العلمي بصفة عامة مما كان له اكبر الاثر في التطوّر اللاحق الذي شهدته فلسفة العلم وخصوصا في امريكا وانقلترا (حيث استقر فيهما من الوضعيين الاصليين أمثال كارناب ونويراث وريشنباخ وهمبل وجودل ومينجر وفيجل وفيسمان)، إذ أن هذا التطور كان في جزء منه نتيجة رد فعل حد اطروحاتها الرئيسية، ولعل في قول فيلسوف العلم المعاصر »كيبرج« ما يؤكد مدى تأثير هذه الحركة على الفلسفة عامة وفلسفة العلم خاصة الى يومنا هذا يقول »كيبرج« في كتابه »العلم والعقل« »يقال غالبا ان الوضعية او التجريبية المنطقية قد وافتها المنية وهذا القول يغلفه الكثير من الشك لانه ليس واضحا تماما من هو الذي توفي اذ لا تزال منهجية الصياغة والتحليل حيّة حتى ضمن اولئك الذين يكتبون بين الحين والاخر النعي تلو النعي في وفاتها«. والان بعد هذه المقدمة الموجزة عن التيار الرئيسي الذي كان في فلسفة العلم حتى اواسط القرن العشرين يجدر بنا ان نتناول ما يمكن ان نسميه »اتجاهات ما بعد الوضعية المنطقية« وهي الاتجاهات التي اسسها اعلام كبارهم: كارل بوبر وتوماس كون وإمري لاكاتوس وباول فيرآبند، الذين شكلوا معا رغم الخلافات الشديدة بينهم في تفصيلات جزئية معالم فلسفة العلم في الثلث الاخير من القرن العشرين. كارل بوبر و »العقلانية النقدية« صدى خاص ظهرت »العقلانية النقدية« التي أرسى أسسها الفيلسوف النمساوي الشهير كارل بوبر (1902 1994) بمثابة صدى خاص للوضعية المنطقية، وفيما بعد تعرضت أفكار بوبر للنقد جزئيا، وللتطور جزئيا في اعمال تلامذته واتباعه ومعارضيه امثال: كون ولاكاتوس وفيرآنيد وغيرهم وقد لاقت »العقلانية النقدية رواجا خاصا في الولاياتالمتحدةالامريكية وانقلترا وألمانيا، وصارت في العقود الاخيرة من أهم تيارات الفلسفة العلمية. ولد كارل بوبر في فيينا عام 1902، وكان ابنا لمحام بارز تلقى تعليمه في جامعة فيينا ثم اصبح مدرسا بعد التخرج وفي العام 1937 احترف الفلسفة كان بوبر في صدر شبابه منجذبا للافكار الماركسية، فاختار أن يكون عاملا يدويا لكنه عاد فاعلن بوضوح ابتعاده عن الافكار اليسارية مفضلا الارتباط بالاشتراكية الغابية ثم تبنى وجهات نظر ليبيرالية ولقد شدد في كتاباته المتعددة على أهمية المبادئ الديمقراطية، وكان معارضا بقوة لجميع أشكال النظرية والممارسة السياسية »الثورية« التي تضع خطة عمل لهندسة اجتماعية على نطاق واسع، أطلق عليها اسم »الهندسة البوتوبية« التي يرى أنها تؤدي ضمن ما تؤدي إلى حكم استبدادي، حيث إنّ »اعادة بناء مجتمع يعتبر مشروعا ضخما يتعين ازعاجا شديدا للكثيرين، وعلى امتداد طويل وبناء على ذلك، فلسوف يصم المهندس اليوتوبي أذنه عن عديد الشكاوي ولسوف يقمع بشدة اية اعتراضات غير معقولة (وسوف يقول كما قال لينين »لا يمكنك ان تصنع عجة دون ان تكسر بيضا« ولكنه سيضطر إلى ان يقمع بجانب الاعتراضات غير المعقولة، النقد المعقول ايضا«، وحث بوبر بدلا عن ذلك على ما أطلق عليه »الهندسة الاجتماعية المتدرجة precemeal Social Engineering التي تدعو إلى تحقيق تغييرات اجتماعية طفيفة نسبيا واضعة في الاعتبار ما اذا كانت التغييرات مفيدة ام لا، وتبعا لذلك يتم تعديل او اصلاح للخطط الموضوعة حيث انّ »خطة عمل الهندسة المتدرجة بسيطة نسبيا فهي خطط عمل لمؤسسات منفردة للصحة او لتأمين العاطلين عن العمل مثلا أو تحكيم محاكم، او وضع ميزانية بمعالجة الكساد، أو اصلاح تعليمي فإنّ أخطأت ألن يكون الضرر فادحا ولن يكون التعديل من جديد شديد الصعوبة. (يتبع)