دراسة بقلم: الأستاذ منصف الجوادي (أخصائي نفساني) نشرنا أمس الجزء الأول من مقال: من يوقف الفساد الأخلاقي للإدارة الأمريكية؟ واليوم ننشر الجزء الثاني والأخير. ومع ان الادارة الأمريكية تعرف ما تقوم به وتخطط لما تقوم به وتعرف مخالفتها للقانون وتحاول الهروب من المسؤولية فإن افتقار مسؤوليها ومنظريها لإدراك القيم تجعل استبصارها Insight بمعنى ما مفقودا. وحتى وان كان لمنظري ومسؤولي الإدارة الأمريكية الفسدى ذكاء ويحتفظون بفكرتهم وقدرتهم على الفعل ويعرفون جريمتهم وقت ارتكابهم لها ويحاولون الهروب من الوقوع تحت طائلة العقاب، فإنهم يعجزون تماما عن تمثل الأخلاق وعن التحكم في أفعالهم ولا يستفيدون من خبراتهم السابقة وليست لعقوبة رادعة لهم، ولهذا كلّه يرى كثير من الأطباء العقليين بحق أن البسيكوباتي ليس بمسؤول عما يرتكب من جرائم. ويجب وضعه إذا أجرم في مكان للبسيكوباتيين وليس في السجن. ولكن لازالت المحاكم في أغلب البلدان تعتبر البسيكوباتي مسؤولا مسؤولية كلية أو جزئية عما يرتكب من جرائم وتحكم عليه بالعقاب. فهل تعزل الادارة الأمريكية في مستعمرة للبسيكوباتين أم توضع في السجن؟ ومن يقوم بذلك؟ وكيف؟ ومتى؟ إن ما يذهب إليه العقل السليم هو أن استمرار هذه الادارة في العمل بحرية كما لو كانت سوية وكما لو كانت تنتمي من ناحية مواقفها وأفعالها وتصرفاتها إلى منظومة الفكر البشري ومنظومة الثقافة الانسانية العامة يعتبر تفريطا في القيم الانسانية الخالدة ومساهمة في تكريس الفساد الخلقي وقيم الانحطاط والانحراف وهو ما قد يمهّد إلى سابقة خطيرة في العلاقات الدولية تقوم على الفوضى واللامعيارية. إن خلايا الجسم البشري عندما لا تلتزم بالعمل والنمو والتأثير في إطار الحدود والقوانين التي رسمتها لها الطبيعة والفطرة ولا تعمل في حدود ومتطلبات علاقات الجوار المحسوبة التي تربطها ببقية خلايا الجسم والتي تتوقف حياة الجميع على احترامها، فإنها تتحول إلى خلية سرطانية تنحرف عن مقاصدها الأصلية وتتضخم عشوائيا على حساب جيرانها في الجسد الواحد، وحتى لا يهلك الجميع بسبب فساد خلية واحدة، فإن المصلحة والواجب يقضيان باجراء عملية جراحية لاستئصال هذا الورم الخبيث. إن تحييد الادارة الأمريكية وابعادها عن دائرة الفعل والتأثير وتجريدها من سلطة اتخاذ القرارات هو أمر واجب اليوم وتحتمه ضرورة الدفاع عن قيم الثقافة الانسانية والحفاظ عن مكتسباتها المستحقة التي كرستها القوانين والاعراف والمبادئ والمعاهدات الدولية التي جاءت تتويجا لنضال الأمم والشعوب ضدّ عوامل الهدم الثقافي والانحراف القيمي وغطرسة القوة. أما ما هي الميكانيزمات وما هي الجهات التي يجب أن تحيّد الادارة الأمريكية وتخرجها تماما من دائرة الفعل والتأثير فإنها كثيرة ولعل أولها هو الشعب الأمريكي نفسه باعتباره أول المتضررين معنويا وسياسيا وأخلاقيا وثقافيا «من عبثية الادارة الأمريكية واستهتارها بالقيم التقليدية الأمريكية التي شكلت يوما ما مصدر إلهام وجذب لبعض شعوب العالم لتأخذ صفة «الحلم الأمريكي» والذي حوّلته الإدارة الأمريكية اليوم بفعل سلوكها العدواني غير المبرر وبحكم عدم شعورها بالمسؤولية التاريخية والأخلاقية تجاه الشعب الأمريكي وتجاه شعوب العالم إلى «الكابوس الأمريكي». إن للشعب الأمريكي أدوات ويمكانيزمات كثيرة لتحقيق هذا الهدف من بينها المؤسسات الدستورية والقانونية والقنوات الأخرى المتفرعة عن المنظومة الديمقراطية في أمريكا إلى جانب الفعاليات السياسية والاجتماعية المرتبطة بحقوق الانسان ومن بينها الحق في الدفاع عن الوطن بعزل ومحاسبة من تسبّب في الاساءة إليه وتشويهه. فبهذا فقط يسجّل في التاريخ أن أقوى دولة ديمقراطية في العالم عزلت إدارتها وجرّدت من مهامها ديمقراطيا من قبل شعبها لأنها أساءت إلى ثوابته وقيمه الإنسانية الأصيلة وألحقت بصورته أضرارا جسيمة لدى الآخرين من شعوب العالم.وبهذا فقط نجنّب العلاقات بين الشعوب في المستقبل إمكانية التعبير عن الأحقاد المتراكمة والمطالبة المرجأة بردّ الاعتبار والأخذ بالثأر، كما نجنّب الشعب الأمريكي الشعور بالمهانة الثقافية والتكفير عن ذنوب وخطايا لم يرتكبها. ثم يأتي بعد ذلك الدور على الأمم والشعوب الأخرى التي عليها أن تتحلى بالجرأة لتصف الأمور كما هي وتنتصر لقيم العدل والحرية والمساواة وتعبر بصراحة عن رأيها وتعلن مواقفها الرافضة والمستهجنة لسلوك وخطط الادارة الأمريكية الحالية في العراق وفي العالم كله، وهي بذلك تقدّم المساندة والدفع المعنوي الاضافي للشعب الأمريكي في سعيه لتصحيح سياسة بلاده ومعاقبة ادارته، وهكذا يكون الفكر البشري كله قد التقى حول جوهره الثابت غير القابل للاجتهاد والتصرف هو قدسية طبيعته الانسانية وحقها المشروع في النمو والارتقاء والابداع بغض النظر عن اللغة أو الثقافة أو الدين أواللون أو الجنس. أما الشعب العربي فعليه أن لا يكون مترددا ومستغرقا أكثر من اللازم في حالة الذهول التي يعيشها أمام تواتر الأحداث والوقائع المؤلمة التي تحدث في العراق. إن ما يحدث اليوم هو محك تاريخي نادر يمثل فرصة لا تتكرر كثيرا للتعبير عن جدارة الشعب العربي شأنه في ذلك شأن بقية الشعوب الأخرى بحمله لصفة الإنسانية، وللتعبير عن اشتراكه مع الانسان السوي أيا كان في رفض الظلم والتصدي لكل اشكال الانحراف والشذوذ. إن موقف الشعب العربي من الحرب الظالمة على العراق ومن صادية الحصار عليه ثم غزوة تدميره والتنكيل بشعبه الصامد هو موقف صحيح وسليم، ومقياس صحته ليس فقط الأساس القومي أو الديني أو الثقافي أو الجغرافي، وإنما مقياس صحته الجوهري هو الأساس الانساني المجرّد من أية صفة، وهو الأساس الذي يؤخذ كمعيار ودليل على أصالة السلوك وكفاءته الأخلاقية وهو ما يفسّر تماثل ردود فعل الناس في جميع أنحاء العالم وتشابه مواقفهم الرافضة لخطط الادارة الأمريكية والمنددة بسلوكها وممارستها اللاإنسانية المنافية لمعايير السلوك البشري والمضادة لقواعد ومستلزمات العلاقة الثقافية بين الشعوب. إن الانسان ليعرف أحيانا هل هو سوّي أم غير سوي، عليه انتظار محكات تاريخية كبرى كالتي نحياها اليوم ليمتحن ويختبر مدى نقاوة أو فساد إنسانية، فرفض الاتجاهات العدوانية والتصرفات التي تنمّ عن فساد إنسانية، فرفض الاتجاهات العدوانية والتصرفات التي تنمّ عن فساد خلقي أيا كان مأتها ومصدرها دليل على سلامة مكونات الشخصية الانسانية وأصالتها وصدق أحكامها ومواقفها، والعكس بالعكس فإن قبول كل ما يضرّ بالانسان ومنجزاته الحضارية المادية منها والمعنوية وينزع عنها حقها الطبيعي في التميّز الثقافي لهو دليل على تشوّه الطبيعة الانسانية وفسادها الخلقي. وتجدر الاشارة هنا إلى أنه متى بني الموقف على أساس من الاعتبار والتقدير اللامشروط لانسانية الانسان فلابدّ أن يكون هذا الموقف حتما حكيما وأخلاقيا، فأي سلوك أو فعل يتضمن الرفض والاستهجان لحالات الفساد السلوكي والخلقي لابد أن يكون من نوع مخالف كليا لسلوك الشواذ والفاسدين القائم على الغطرسة والارهاب وثقافة القوة، ذلك أن قوة الثقافة وحدها ومهما طال الزمان أو قصر هي القادرة على قهر ثقافة القوة. أليس هذا ما يؤتمن حملة التراث ووكلاء الحضارة الانسانية على التمسك به والدفاع عنه وتقديمه إلى الصغار ونقله من جيل إلى آخر؟ أليس هذا هو بالضبط أساس ومعيار الأخلاق الانسانية؟ أليس هذا هو الفيصل بين المعقول واللامعقول؟ أليس جريمة أن يسمح حملة التراث الإنساني الأصيل للإدارة الأمريكية بأن تؤسس لقيم المروق الثقافي والفساد الخلقي وتكريس ميول العدوان والهمجية؟ فليكتب كل من موقعه. وليتكلم كل من موقعه، وليفعل كل من موقعه، فالتاريخ فضاح ولا يرحم، ومن لم يسعف نفسه اليوم لن يقدّم له التاريخ براءة ذمّة غدا.